باريس | قبيل بدء فترة الصمت الانتخابي، أشارت آخر استطلاعات الرأي إلى أنّ زعيم حركة «إلى الأمام»، إيمانويل ماكرون، استعاد زمام المبادرة، بعد خروجه منتصراً على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن، خلال المناظرة التلفزيونية التي جرت مساء الأربعاء.
فماكرون سجّل تقدماً بنسبة 2 في المئة، ليتصدّر بـ63 في المئة في مقابل 37 في المئة لمارين لوبن، وفق استطلاع نشرت نتائجه أمس مؤسسة «Ifop».
هذه التوقعات تُرجّح أن يخرج وزير الاقتصاد السابق منتصراً في معركة الحسم، لتكون مفاتيح الإليزيه من نصيبه، إلا إذا حدثت مفاجأة كبيرة وغير متوقعة. وقد ساد الاعتقاد خلال الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية بأن فوز ماكرون بالرئاسة قد حُسم أثناء المناظرة. وهو أمرٌ بات مسلّماً به، حتى من قبل ألدّ خصومه، فيما بدا أنّ الشك تسلل إلى صفوف أنصار لوبن، الذين قال 12 في المئة منهم أن «أداءها كان مخيّباً».
هناك معطى آخر يصبُّ في غير مصلحة لوبن. ففي مقابل تصدّع «الجبهة الجمهورية» التي كان خصوم اليمين المتطرف يراهنون عليها لتحقيق إجماع من شأنه أن يسدّ أبواب قصر الإليزيه في وجه مارين لوبن، كان لافتاً أن جبهة أخرى رأت النور في الأسبوع الأخير من الحملة، وهي «جبهة الخوف» التي يحركها «رهاب الخوف من التغيير». وقد تكرّس هذا الانطباع، بشكل أكثر وضوحاً، على إثر أداء لوبن الملتبس ومواقفها المثيرة للجدل، وخاصة في ما يتعلق بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي والموقف من العملة المشتركة الأوروبية «اليورو».
بروز ظاهرة «رهاب التغيير» يلخّصه عالم الديموغرافيا إيمانويل تود بأن الناخبين طوال هذه الحملة الانتخابية كانت تتنازعهم ثنائية «المكنسة الانتخابية» التي كان يحرّكها الناخبون الناقمون على الوضع القائم، وأغلبهم من فئات الشباب تحت سنّ الخامسة والثلاثين، في مواجهة عامل «الخوف من المجهول» الذي يتحكم في خيارات الفئات الأكبر سناً.
تود، الذي اشتهر بدراساته الاستشرافية التي تنبّأت بتغييرات سياسية عدة، وذلك بالاستناد الى المعطيات الديموغرافية، يعتقد بأن ناخبي «رهاب التغيير» سوف يتغلبون على ناخبي «النقمة على الوضع القائم»، في الجولة النهائية من السباق نحو الإليزيه. ويفسّر توقعه هذا بأن «متوسط أعمار الناخبين في فرنسا حالياً يقدر بـ41 سنة‏، في حين يجب أن يكون متوسط العمر بحدود 36 سنة لتكون الغلبة للاقتراع الاحتجاجي الذي يتطلع إلى قلب الطاولة على الوضع القائم».
تحليل يوافق عليه مدير «مؤسسة التجديد السياسي»، دومينيك راينيه، الذي يقول إن المفاجاة الأبرز التي كشفت عنها حملة الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة تتمثل في «تراجع نبرة الاعتراض على لوبن، بسبب انتمائها إلى اليمين المتطرف، لحساب ظاهرة غير معهودة من قبل تتمثل في الاعتراض حصراً على المجازفة الناتجة من احتمال فوز لوبن بالرئاسة، وذلك بسبب برنامجها الاقتصادي المنادي بالتخلي عن العملة المشتركة الأوروبية».

قد تنقلب الطاولة على
ماكرون إذا تجاوزت نسبة
الامتناع 35 في المئة


راينيه يعتقد بأنّ هذا الخوف من العواقب الاقتصادية التي يمكن أن تترتّب على مجازفة التخلي عن «اليورو» بات أكثر تخويفاً للناخبين من أفكار لوبن المتطرفة والعنصرية. وبالتالي فهو يتوقع أن «ما سيقطع الطريق أمام وصولها الى الإليزيه لن يكون جبهة جمهورية، بل سيكون جبهة أخرى تحركها المصالح المالية»! ويفسر ذلك بقوله: «الموقف من اليورو سيكون العلامة الفارقة في ترجيح الكفة بين لوبن وماكرون، لأن غالبية الناخبين فوق سن الأربعين يخشون على مدّخراتهم المالية وقدرتهم الشرائية أكثر ممّا تهّمهم القضايا الفكرية المتعلقة بمحاربة العنصرية أو اليمين المتطرف. ففرنسا تمتلك الرقم القياسي أوروبياً في نسبة الادخار المقدرة بنحو 4 آلاف مليار يورو. ويخشى هؤلاء المدّخرون أن تتسبب مجازفة لوبن بالخروج من العملة الأوروبية المشتركة في نسبة تضخم مخيفة من شأنها أن تقضم ما بين 30 و40 في المئة من قيمة تلك المدخرات. وبالتالي فإن هؤلاء الناخبين (فئات ما فوق الأربعين)، الذين يمثلون الأغلبية، سيضعون في الحسبان هذا المعطى المالي، ما سجعلهم يحجمون عن التصويت للوبن».
في المقابل، إذا كان «اليورو» هو العقبة الأساسية التي تعترض فوز لوبن بالرئاسة، فإن ماكرون يصطدم هو الآخر بعقبة قد تجعله يتعثر في الجولة الأخيرة من الانتخابات. عقبة تتمثل في «ناخبي الممانعة»، أي الذين سيقاطعون الانتخابات أو سوف يختارون «الاقتراع الأبيض». وإنّ شخصية ماكرون الباهتة وبرنامجه السياسي الملتبس انتقصا كثيراً من قدرته على استمالة الناخبين الرافضين للوبن، ما جعل نسب «الممانعة» ترتفع بشكل لافت، في خلال الأسبوع الأخير.
وبحسب آخر الاستطلاعات، فإن نسبة «الممانعين» بلغت 38 في المئة لدى الناخبين الذين صوّتوا لجان لوك ميلانشون في الدورة الأولى، و31 في المئة ممن صوّتوا لنيكولا ديبون إينيون (بالرغم من أن هذا الأخير عقد تحالفاً سياسياً مع لوبن)، و26 في المئة ممن صوّتوا لفرنسوا فيون، و21 في المئة من ناخبي «الحزب الاشتراكي» الذين صوّتوا لبنوا هامون. وهذا ما يمثل أكثر من 5.5 ملايين صوت ستضاف في الجولة الثانية إلى قرابة 11 مليون «ممانع» ممن قاطعوا الاقتراع أو أدلوا بأصوات بيضاء في الجولة الأولى من الانتخابات.
هذا المخزون الانتخابي الضخم سيحوّل «الممانعة» من خيار احتجاجي إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر بوجه ماكرون في جولة الحسم، إذ تتجاوز الأعداد المتوقعة للناخبين الذين يعتزمون مقاطعة الانتخابات عدد الأصوات التي تفصل بين لوبن وماكرون في الاستطلاعات الأخيرة.
ويُجمع الخبراء على أنّ نسبة الامتناع التي قُدّرت بـ24 في المئة في الجولة الأولى، سوف تقلب الطاولة على ماكرون إذا تجاوزت 35 في المئة في جولة الحسم بعد غد الأحد. وهذا ما يعني أنّ نسبة المشاركة هي التي ستكون حكماً بين لوبن وماكرون. وبالتالي، فإنّ الممتنعين هم الذين سيحددون هل ستكون مفاتيح الإليزيه من نصيب اليمين المتطرف، أو من نصيب الفاشية المالية الناشئة.




ليفي يريد ماكرون... بأي ثمن!

خوفاً من أيّ تصاعد في نسب الممتنعين عن التصويت يوم الأحد، نظّم المفكر (المتصهين) برنادر هنري ليفي، وعدد من الشخصيات الفكرية والسياسية، ندوة في باريس مساء أمس، تحذّر من مخاطر أن يؤدي خيار الامتناع عن التصويت إلى فوز مارين لوبن. وقال المنظّمون إنّ «الامتناع عن التصويت يوم الأحد، يعني التصويت للوبن».
وحضرت في الندوة شخصيات يمينية مثل رئيس الحكومة الأسبق جان بيار رافاران، أو محسوبة على اليسار (يسار الكافيار، كما يوصفون)، مثل رئيس الحكومة السابق مانويل فالس، بهدف تأمين أكبر دعم لإيمانويل ماكرون.
وقال ليفي إنّ «فكرة هذه الندوة وليدة تباين بسيط: التباين بين 2002 (حين تأهل والد مارين لوبن إلى الجولة الثانية)، و2017»، معتبراً أنه في الوقت الراهن هناك «لامبالاة غريبة». ورغم أنّ أسباب ابتعاد الفرنسيين عن المرشحَين باتت مفهومة، قال ليفي في سياق دعوته إلى انتخاب ماكرون: «عشنا ما جرى عام 2002 وكأنه زلزال، ونزل الملايين إلى الشوارع للتظاهر. أما اليوم، فلا نلحظ حتى طيف ما جرى» قبل 15 عاماً.
(الأخبار)