باريس | قبل خمسة أيام من جولة الحسم في السباق نحو الإليزيه، تشكّل المناظرة التلفزيونية التي ستجرى الليلة بين لوبن وماكرون امتحاناً فارقاً. فبالرغم من أن ماكرون حلّ في المنزلة الأولى، خلال الجولة الأولى، فإنّ فتور حملته الانتخابية، في مرحلة ما بعد التأهل للجولة الثانية، جعل الشكوك تتزايد بخصوص أهلية وزير الاقتصاد السابق لحشد جبهة واسعة من شأنها أن تقطع الطريق أمام وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، في واحدة من أعرق الديموقراطيات الغربية.
لا يزال ماكرون يتصدر في الاستطلاعات بنسبة 59 في المئة، في مقابل 41 في المئة للوبن. لكن الهفوات المتتالية، التي راكمها خلال الأيام العشرة الأخيرة، جعلته يتراجع بنسبة 2 في المئة، فيما تقدمت منافسته لوبن بالنسبة نفسها.
أمر قد يبدو قليل الأهمية، لأن تأثير هذه النسبة في ميزان القوى الانتخابي ضئيل جداً. لكن هذا التراجع، يثير مخاوف متزايدة لدى خصوم اليمين المتطرف، الذين يمثلون غالبية الفرنسيين. فبخلاف أنصار زعيم حركة «إلى الأمام» (ماكرون)، الذين لم تتزعزع ثقتهم في الفوز، يرى عدد متزايد من الخبراء والمحللين أن تراجع ماكرون في الاستطلاعات الأخيرة أمر مثير للقلق. فبرغم ضآلة التراجع، إلا أنه «لا يمثل سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد».
القراءة الحرفية للاستطلاعات تعطي الانطباع، بالفعل، بأن الفارق بين المرشحين لا يزال شاسعاً، إذ يتقدم ماكرون على لوبن بنسبة 18 في المئة. لكن الشيطان يكمن، دوماً، في التفاصيل.

برغم أنّ تراجع ماكرون ضئيل، إلا أنّ لوبن تبدو أكثر براغماتية
فالاستطلاع الأخير، الذي أخرجته مؤسسة «Sofres-Kantar»، عشية المناظرة أبرز مؤشرات عدة تستدعي القلق بخصوص حظوظ ماكرون في الفوز. فقد بيّن هذا الاستطلاع أن 36 في المئة فقط من الناخبين يعتزمون التصويت لماكرون تأييداً لبرنامجه وأفكاره السياسية، في مقابل 64 في المئة يعتزمون التصويت له اضطراراً، بدافع قطع الطريق أمام وصول اليمين المتطرف إلى الحكم. هذا المعطى يجعل مخزون ناخبي ماكرون، في الجولة الثانية من الاقتراع، شديدة الهشاشة. وخاصة في حال انتكاسه الليلة أمام لوبن في «مناظرة كل المخاطر»، كما باتت توصف في فرنسا. وهناك مؤشر آخر يقوي هذا الانطباع، إذ بيّن الاستطلاع الأخير أن نسبة من يعتقدون بأهلية ماكرون لتولي الرئاسة تراجعت، خلال أقل من أسبوعين، من 47 في المئة إلى 37 في المئة، في انتكاسة مفاجئة وغير مسبوقة، بالنسبة إلى مرشح لم يجتز بعد عتبة الإليزيه. فحتى فرنسوا هولاند لم يصل إلى هذه النسبة من تدني الشعبية سوى بعد عامين من توليه الحكم!
لا شك أن هذه المفارقة تجد تفسيرها في الهنات والأخطاء التكتيكية المتتالية التي ارتكبها ماكرون منذ أن خرج متصدراً من الجولة الأولى. بدأ ذلك في «خطاب النصر» الذي ألقاه، بعد إعلان النتائج، حيث بلغ به الزهو بتفوقه إلى حدّ الاشتراط على الناخبين بالتصويت له في الجولة الثانية من أجل «تزكية برنامجي، وليس بدافع قطع الطريق أمام اليمين المتطرف». خطاب بدا نشازاً، في الوقت الذي سارع فيه أغلب المرشحين الآخرين للدعوة إلى التصويت ضد لوبن.
في المقابل، بدت استراتيجية لوبن أكثر براغماتية، حيث توجهت بالدعوة، فور ظهور النتائج، إلى «عموم الشعب الفرنسي» من أجل قطع الطريق أمام فوز ماكرون بوصفه مرشح «العولمة المتوحشة والأوساط المالية المهيمنة». وأثبتت استراتيجية لوبن، القائمة على «الانتهازية الانتخابية»، فاعلية مخيفة، إذ قال 47 في المئة من الناخبين إنهم يعتزمون التصويت لها بدافع قطع الطريق أمام ماكرون. ويثبت هذا الأمر أن لوبن هي التي نجحت في شيطنة ماكرون، في حين كان الاعتقاد الأرجح بأن العكس هو الذي سيحدث.
هذه النسبة القياسية تبيّن أن قرابة نصف الأصوات التي ستحصدها لوبن في الجولة الثانية من الاقتراع ستكون من الناقمين على ماكرون. سواء كان ذلك بسبب إخفاقات «اليسار الرخو»، الذي كان وزير الاقتصاد السابق أحد أبرز أركانه في عهد هولاند، أو بسبب أخطاء استراتيجيته الانتخابية التي أظهرته في صورة مرشح أقلية من الأثرياء وأرباب العمل والمنتفعين من الوضع القائم. وقد شكلت حادثة سحب لوبن البساط من تحت رجلي ماكرون، في مسقط رأسه بمدينة أميان، حين ارتجلت قبل أسبوع «زيارة تضامن» إلى عمال مصنع «Whirlpool» المضربين، في الوقت الذي كان فيه ماكرون مجتمعاً مع النقابات وأرباب العمل في المدينة نفسها لبحث مستقبل هذا المصنع المهدّد، بالغلق لأنّ مالكه الأميركي يعتزم نقله إلى بولندا بعدما كان قد استفاد من مساعدات وإعفاءات ضريبية مجزية من قبل الحكومة الفرنسية في الأعوام الأخيرة، مثالاً. زيارة لوبن المفاجئة استدرجت ماكرون إلى فخ التنقل بدوره للقاء العمال المضربين، ليُستقبل بالصفير وصيحات الاستهجان، الأمر الذي كان له وقع رمزي بالغ السلبية بالنسبة إلى مرشح متهم أصلاً بالتحيّز للأوساط المالية والعولمة المتوحشة التي تجسد مشكلة مصنع «whirlpool» واحدة من إفرازاتها الأكثر تخويفاً لناخبي الفئات الشعبية.
بالرغم من كل ذلك، استمرّ ماكرون وأركان حملته بالتصرف وكأنهم قد فازوا بالاستحقاق الانتخابي سلفاً، رافضين أيّ تقارب أو تحالف انتخابي مع التيارات التي أُقصِيَ ممثلوها في الجولة الأولى. وهذا الأمر زاد من عزلة مرشح كان كل شيء يؤهله لأن يكون محل إجماع في مواجهة اليمين المتطرف، الذي لا تزال غالبية الفرنسيين تصنّف التصويت له «جرماً أخلاقياً» لا يليق بموطن «الحرية والمساواة والإخاء».
في المقابل، لم تنجح لوبن في اجتذاب قطاعات جديدة من الناخبين، بالرغم من خطوات الانفتاح العديدة التي أقدمت عليها. زعيمة «الجبهة الوطنية» سعت لمغازلة ناخبي اليمين التقليدي، الناقمين من إخفاقات هولاند والتي يُعدّ ماكرون «وريثها الشرعي»، وناخبي اليسار الراديكالي الذين يرون في وزير الاقتصاد السابق مرشح العولمة المتوحشة، والتي يخشون من أن تؤسس لضرب من «الفاشية المالية».
نتائج استراتيجية الانفتاح التي اعتمدتها لوبن ظلت محدودة على صعيد اجتذاب الناخبين، إذ لم تتقدم سوى بنسبة 2 في المئة. لكنها حققت اختراقين سيكون لهما دور حاسم في اقتراع الأحد المقبل. يتمثل أولهما في الارتفاع القياسي لنسب المقاطعة والانتخاب الأبيض، ما يصب في صالحها بشكل غير مباشر (بلغت النسب 31 في المئة في صفوف ناخبي ميلانشون، 22 في المئة لدى أنصار فرنسوا فيون، و19 في المئة في أوساط ناخبي الحزب الاشتراكي). فيما يتجسد الاختراق الثاني في تصدّع «الجبهة الجمهورية» القائمة على مبدأ توافق كافة التيارات والأحزاب السياسية، اليمينية منها واليسارية، على رفض التحالف مع اليمين المتطرف.
مؤسِسة «الحزب المسيحي الديموقراطي» كريستين بوتان، كانت أول من خرق المحظور، داعية إلى التوصيت للوبن ضد ماكرون الذي قارنته بـ«الكوليرا». وفي خطوة تالية، نجحت لوبن في إبرام تحالف سياسي مع نيكولا ديبون إينيون، زعيم تيار «النهوض الفرنسي» ذي التوجه السيادي ــ الديغولي، يقضي بتعيينه رئيساً للحكومة في حال فوزها بالرئاسة. وهي السابقة التي ستكون علامة فارقة في الحياة السياسية الفرنسية في الأعوام المقبلة، بصرف النظر عمن سيخرج منتصراً في اقتراع الأحد المقبل.