يبدو أنّ شبح التقسيم يعود إلى أكثر المناطق الأوروبية تشعباً من الناحية العرقية والثقافية، من خلال التظاهرات المناهضة للسلطات، وهجرة الآلاف بحثاً عن فرص عمل ومستقبل أفضل، فضلاً عن انتشار الفكر المتطرف. وبعد نحو ربع قرن على اندلاع حروب البلقان والتفكك التدريجي ليوغوسلافيا، عاد الإقليم الواقع في جنوب شرق أوروبا إلى الواجهة، وذلك عقب سلسلة من الأحداث التي كشفت النقاب عن صراع النفوذ القديم ــ الجديد، بين البلدان الغربية ومشروع «ألبانيا الكبرى» من جهة، وروسيا وطيف «صربيا الكبرى» من جهة أخرى.
مقدونيا

اتخذت الأزمة السياسية التي تعصف بمقدونيا منذ سنتين (بعد فضيحة التجسس على الأحزاب المعارضة) منحى خطيراً مطلع الشهر الماضي، مع خروج عشرات الآلاف في تظاهرات يومية تنديداً بطرح اعتبار اللغة الألبانية اللغة الرسمية الثانية كشرط لتشكيل الحكومة، ورفضاً لتغيير الرموز الرسمية للدولة بما يتناسب ومطالب الأقلية الألبانية (20-25% من السكان)، التي يتم اتهامها بزعزعة استقرار الدولة الواقعة في وسط شبه جزيرة البلقان، ومحاولة تقسيمها على أساس عرقي.
وجاء ذلك بعدما أعرب زعيم الحزب «الاشتراكي الديموقراطي» المعارض زوران زايف، عن استعداده لتقديم «تنازلات» مقابل حصوله على دعم القوى السياسية الألبانية، في محاولة لبسط نفوذه بالرغم من هزيمته في انتخابات كانون الأول الماضي. ولا تزال الدولة التي أعلنت استقلالها عام 1991، غير قادرة على تشكيل حكومة منذ الانتخابات، التي فاز فيها الحزب الحاكم، ولكنه لم يحظَ بمقاعد كافية لتشكيل الحكومة.

مقدونيا والدول
المجاورة ضحية
لصراع على النفوذ
بين الغرب وروسيا


ويقول الخبير البريطاني في شؤون العلاقات الخارجية ورئيس تحرير مجلة «بوليتيكس فيرست» ماركوس بابادوبولوس، إنه «منذ أن استقر عشرات الآلاف من ألبان كوسوفو في مقدونيا، أصبحت الأخيرة قنبلة موقوتة»، متوقعاً أن تتصاعد التوترات العرقية والتوجهات الانفصالية في الأسابيع المقبلة، لا سيما أن الاتفاق المبدئي المطروح بين المعارضة والألبان مرهون باتفاقات سياسية أخرى، من ضمنها حصول الألبان على حكم ذاتي. ويشير بابادوبولوس، الذي تابع التظاهرات عن قرب، إلى ضرورة الالتفات إلى الأبعاد الخارجية لهذه الأحداث، إذ أن مقدونيا، كغيرها من الدول المجاورة، ضحية لصراع على النفوذ بين الغرب وروسيا.
واتهم المتظاهرون، الثلاثاء الماضي، الاتحاد الأوروبي بـ«التدخل في السياسة الداخلية» للبلاد، وذلك بعدما رفض مفوض سياسة الجوار الأوروبية ومفاوضات التوسع يوهانس هان، لقاء ممثلي التيارات القومية إثر وصوله إلى مقدونيا، الدولة المرشحة منذ 2005 لعضوية الاتحاد. وقال هان إن «الخطاب السلبي الذي يستهدف المجتمع الدولي والمنظمات المدنية لديه نتائج عكسية… ويقوّض مكانة مقدونيا على الصعيد الدولي»، في إشارة إلى اللافتات المعادية للاتحاد الأوروبي التي رفعت في العاصمة سكوبي.
وقالت موسكو، مطلع الشهر، إن الدول الأوروبية تستغل الأقلية الألبانية «بهدف تسليم السلطة إلى المعارضة المهزومة»، داعية الغرب إلى «الكفّ عن التدخل في الشؤون الداخلية لمقدونيا واحترام حق المواطنين بتقرير مصيرهم». وهذا ما عبّر عنه بابادوبولوس، قائلاً: «تستخدم أوروبا والولايات المتحدة الألبان كورقة ضغط... فمن خلال تشجيعهم على التمرّد وتقويض وحدة أراضي الدولة، تقوم واشنطن بتحذير سكوبي من عواقب مواصلة علاقاتها الوثيقة مع موسكو»، مؤكداً أن تكرار «سيناريو كوسوفو» ليس مستبعداً.
هذه الأحداث أعادت الحديث عن مشروع «ألبانيا الكبرى»، الذي تشمل خريطته ألبانيا وكوسوفو وجنوب صربيا وغرب مقدونيا وشمال غربي اليونان وجنوب الجبل الأسود، ويندرج في إطاره، وفق الخبير في شؤون أوروبا الشرقية مارتن براكساتوريس، السيناريو الحالي في مقدونيا، لا سيما أن الألبان المتمركزين في الشمال على الحدود مع كوسوفو، الإقليم الصربي ذو الأغلبية الألبانية الذي أعلن استقلاله في 2008، «يعيشون أصلاً وكأنهم دولة ضمن دولة».

كوسوفو

احتفلت كوسوفو الشهر الماضي بالذكرى التاسعة للاستقلال، في الوقت الذي يشهد فيه البلد «الأكثر فساداً في أوروبا» توتراً غير مسبوق في العلاقات مع صربيا، التي شهدت انتخابات رئاسية، أمس، على خلفية سعي بريشنتينا لـ«تعزيز استقلالها».
ومنذ مطلع العام الحالي، توالت الإجراءات الاستفزازية من كلا الطرفين، بدأت باعتقال السلطات الفرنسية لرئيس وزراء كوسوفو السابق راموش هراديناي، بناءً على مذكرة اعتقال أصدرتها صربيا، التي تتهمه بارتكاب جرائم حرب. وتفاقم المشهد بعد إرسال بلغراد، للمرة الأولى منذ 1999، قطاراً كتبت عليه عبارة «كوسوفو هي صربيا» إلى مدينة كوسوفسكا ميتروفيتشا في الإقليم، في خطوة فجّرت موجة من التهديدات المتبادلة، وصلت إلى حد إعلان الرئيس الصربي استعداده «شخصياً» للدخول مع جيشه إلى شمال كوسوفو في حال تعرّضت الأخيرة للمواطنين الصرب.
إلّا أنّ «القشّة التي قصمت ظهر البعير» كانت إعلان الرئيس الكوسوفي هاشم تاجي، عزم بلاده، على الرغم من تحذيرات «الناتو» والولايات المتحدة، إنشاء «جيش وطني من 5000 عنصر»، في خطوة أثارت غضب صربيا، التي قال سفيرها لدى موسكو سلافينكو تيرزيتش، إن «غايتها الجيوسياسية تصبّ في مشروع ألبانيا الكبرى».
ووفق مراقبين، فإن السلطة الفاسدة في كوسوفو، تسعى، من خلال زعزعة الأمن والاستقرار بحجة «حماية السيادة»، لإنقاذ نفسها من ثورة شعبية محتملة، بدأت تظهر معالمها بوضوح على كل المستويات. فبعد 18 عاماً على تدخل «الناتو» لوقف الاقتتال في الإقليم، في خطوة يقول المحللون إنها فتحت الباب أمام «التدخلات الإنسانية» الغربية في الشرق الأوسط، لا تزال بريشتينا تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، إذ سجلت كوسوفو مستويات قياسية في أوروبا من حيث الفقر (47%) والبطالة (35% من السكان، 60% بين الشباب).
كذلك، تواجه كوسوفو تحدّي الهجرة إلى أوروبا الغربية، إذ يقّدر اليوم عدد السكان بـ1,87 مليون نسمة مقابل 2,1 مليون في 2008، وانتشار الفكر المتطرف (نحو 300 من مواطني الدولة التي تبلغ نسبة المسلمين فيها 95%، التحقوا بصفوف تنظيم داعش في سوريا والعراق). ويحمّل الشعب السلطة «الفاسدة» مسؤولية تدهور الحالة المعيشية في البلد، الذي يحتل المرتبة 105 في مؤشر «منظمة الشفافية الدولية»، وسط استمرار كشف التقارير الاستخباراتية تورط كبار المسؤولين (من ضمنهم الرئيس نفسه) في الرشوة وغسيل الأموال والجريمة المنظمة.
كل هذه الاضطرابات قامت بإذكاء الغرائز القومية والعنصرية بين الألبان والأقلية الصربية، التي تتركز بشكل كبير في المناطق الشمالية على الحدود مع صربيا، وساهمت في زيادة شعبية الأحزاب المعارضة، التي تتهم السلطة الحاكمة بـ«التفريط بالسيادة»، خاصةً بعد توقيع بريشتينا على اتفاقية تسمح بتشكيل «اتحاد المحافظات الصربية» على مساحة تمثّل 25% من مساحة البلاد، وتدعو إلى ترسيم الحدود مع جمهوريّة الجبل الأسود.

الجبل الأسود

أما في جمهورية الجبل الأسود، فوصلت «الحرب الناعمة» بين روسيا والغرب إلى ذروتها، وذلك مع قرب انضمام البلد الذي انفصل عن صربيا في 2006 إلى «الناتو». وأعرب قادة دول الاتحاد، في الأسابيع الماضية، عن «القلق» إزاء ما وصفوه بـ«الأنشطة الروسية المزعزعة للاستقرار» في البلقان، وخاصةً في الجبل الأسود، وسط اتهام بودغوريتسا لموسكو بـ«تنظيم انقلاب» على رئيس الوزراء الموالي للغرب، أُجهض يوم الانتخابات في تشرين الأول الماضي، بهدف «عرقلة انضمام بودغوريتسا إلى الناتو».
ومن المتوقع أن تصبح الجبل الأسود وجيشها المؤلف من 2000 عنصر فقط، العضو الـ29 رسمياً في «الناتو» في حزيران المقبل، وفق ما صرّح الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، الأسبوع الماضي عقب تصويت مجلس الشيوخ الأميركي، مؤكداً أن «انضمام بودغوريتسا إلى الأسرة الديموقراطية، سيساهم في استقرار المنطقة وجميع أنحاء أوروبا».
ويواجه قرار الانضمام معارضة واسعة في البلد الذي يشكل السلاف والأرثوذوكس أكثرية سكانه، وشهد تظاهرات عنيفة في الماضي، من المحتمل أن تُستأنف. ودعت المعارضة، الأسبوع الماضي، السلطات إلى إجراء استفتاء عام حول الانضمام، لا سيما بعدما أظهر استطلاع الرأي الأخير أن غالبية الشعب يعارضون الخطوة. ووفق الخبراء، مجموعة من الأسباب تقف وراء رفض الشعب، منها ما هو تاريخي (الغارات الجوية العنيفة من قبل الناتو في 1999، العلاقة مع موسكو والديانة المشتركة)، ومنها ما هو اقتصادي (زيادة في النفقات العسكرية).