تشتمل الرأسماليّة، كما برهن توماس بكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، على ميل داخليّ لمفاقمة تفاوتات الدخل والثروة. وتتمثل إحدى عواقب هذا الميل في انفجارات سياسيّة دوريّة للغضب الشعبي والجماهيري. ويناضل الناس ضد الفساد السياسي والانقسامات الاجتماعيّة التي تزيد تلك التفاوتات في حدّتها. وكثيراً ما ينجح السياسيون الذين يتلقفون تلك اللحظات في الاستفادة منها.
أما السياسيون الذين يفشلون في إدراكها، فهم إما يعترفون بخسارتهم، أو يبرّرونها. وقد خدم مثل أولئك الفاشلين عادة كإداريين أو مشجعين للرأسماليّة – أي «منظوماتها الحاكمة» المتعاقبة. أولئك المنهمكون بالاحتفاء بالنظام (وبرواتبهم العالية)، يمنعهم عماهم الدفاعيّ عن رؤية إخفاقاته وتناقضاته الحرجة.
اليوم، ونحن لا نزال غارقين منذ عام 2008 في تداعيات ثاني أسوأ انهيار عرفته الرأسماليّة العالميّة، يجب استخلاص الدرس ممّا حدث في أعقاب أسوأ أزمة، أي أزمة عام 1929. فحينها، أيضاً، أدى صعود التفاوت وما تبعه من انهيار إلى نفاد صبر كثير من الناس من الرأسماليّة وتصاعد عدائهم لها. وقد قللت حينها المنظومات الحاكمة ممّا حدث من انهيار ومن آثاره الاجتماعيّة؛ إذ حاولت إقناع نفسها والآخرين بأنّ الاقتصاد سيتحسّن مرّة أخرى. لكن موسوليني وهتلر سلكا طريقاً أخرى مختلفة تماماً. فقد شدّدا على حقيقة الأزمة الاقتصاديّة، والتفاوتات الاجتماعيّة، الخ، وتعاطفا علناً مع ضحايا الرأسماليّة، ووجّها اللوم إلى الأحزاب السياسيّة في المنظومة الحاكمة، وطلبا من الناخبين تفويضهما كقائدين عظيمين كي يصلحا العطب ويعالجا قصور «النظام الفاسد الذي يخدم الآخرين»، وذلك بإخضاعه إلى «الأمّة». لقد وعدا بجعل النظام «يعود» إلى خدمة الأمّة بدل إيذائها، وتدثّرا بالأعلام وبباقي مظاهر القوميّة لتثبيت حيلتهما.
وفي نظرهما، لم تكن الرأسماليّة هي المشكلة في حدّ ذاتها، ويكفي إصلاح وضعها كي تغدو في خدمة الأمّة. وكما حدث باستمرار في تاريخ الرأسماليّة، طغى على لحظات أزمتها انحراف بالغضب الشعبي نحو ما يشبه القوميّة الهيستيريّة.
والآن، يعيد ترامب تكرار هذا التاريخ الرأسمالي. فقد بلغت تفاوتات الدخل والثروة في الولايات المتحدة بعد عام 1970 ذروتها خلال انهيار عام 2008. ومنذ ذلك الحين، يؤكد الجناح الديمقراطي لمنظومة الحكم بشكل دائم على «التعافي»، حتى مع تعمّق معاناة الجماهير وتعالي السخط في صفوفها. أما الجناح الجمهوري، فيؤكّد بشكل دائم أهميّة التقليص من الضرائب الحكوميّة ومن القوانين المكبّلة من أجل تحرير رأسماليّة ستقودنا بلا ريب إلى ازدهار متصاعد. وبالنسبة إلى أجزاء واسعة من السكان، فإنّ مقترحات منظومة الحكم «القديمة المكرّرة» أضحت غير ملائمة لتجاوز الانحدار الذي يعيشونه ويحسّونه. وقد فهم برني سندرز ذلك، كما فهمه ترامب. لكن منظومة الحكم الديمقراطيّة نجحت في إفشال سندرز، بينما فشلت منظومة الحكم الجمهوريّة في فعل ذلك مع ترامب.
لا تختلف عبارة ترامب «أميركا أولاً» كثيراً عن عبارة «ألمانيا فوق كلّ شيء». فكلا الشعارين كانا ولا يزالان استراتيجيتين أيضاً. فقد هدّدت الانقسامات الاجتماعيّة، المُضعفة والمُدمرة للمجتمعات الرأسماليّة في الثلاثينيات، قدرة الرأسماليّة على الاستمرار (خاصّة في ظلّ وجود النظام السوفياتي الجديد). وبالمثل، تُوجد انقسامات مشابهة ومهدّدة في بدايات هذا القرن. وقد كانت الإجابة الاستراتيجيّة في كلا الحالتين صعود قوميّة اقتصاديّة تصرف نظر الجماهير الغاضبة عن الصراعات الداخليّة حول التفاوتات، والانهيارات، و«عمليّات التعافي»، وتُعيد تركيز غضبهم وآمالهم على أجندة قوميّة ستعيدهم إلى «أيّام العزّ الماضية» (أي «رايخ» ألماني آخر، وولايات متّحدة «عظيمة من جديد»)، وتُعاقب الأجانب المسيئين.
ويجب على البرنامج القومي أن يشمل، كأهداف، «الأجانب» داخل البلاد: غير الآريين في ألمانيا والمهاجرين الحديثين إلى الولايات المتحدة، وخاصّة اللاتينيّين منهم. يجب دمغهم بأنهم «أجانب أساؤوا إلى حسن ضيافتنا»، ومن ثمّ محاسبتهم على معاناتنا الاقتصاديّة. كذلك تشمل الأهداف أيضاً «الأجانب» خارج البلاد، الذين جعلوا منّا ضحيّة من خلال معاهدات سيّئة، وسلوك سيّئ، و«صفقات» سيئة سيلغيها زعيم قويّ جديد ويستبدلها بأخرى. فالتشابهات بين استراتيجيّة هتلر واستراتيجيّة ترامب كثيرة جدّاً، ومتقاربة جدّاً بشكل لا يمكن تجاهله.
ولعل أهم تشابه لا يجرؤ أيّ منهما على الإقرار به. فكلاهما يطمح إلى إنقاذ الرأسماليّة من الأعمال العدائيّة الحرجة التي يسبّبها النظام لنفسه من خلال ما ينتجه من تفاوتات، وانهيارات، وما يترتب عليها من انحدار اقتصادي. وكلاهما يعتقد أنّ الرأسماليّة هي التنظيم الضروري والطبيعي للإنتاج في المصانع والمكاتب والمتاجر، حيث من الطبيعي أن تسيطر حفنة من المالكين/ التنفيذيّين وأن تُوظف كتلة من العمّال المأجورين. كذلك، يعتقد كلاهما بإطلاقيّة علاقة صاحب العمل بالموظفين كتنظيم ضروري للإنتاج.
وبهذا، فهما يكرّران نفس ولاء القادة القدامى المطلق تجاه علاقات الإنتاج بين السيّد والعبد، والإقطاعي والقنّ. وما يزيد التزام هتلر وترامب بإنقاذ طبيعة العلاقة الرأسماليّة بين صاحب العمل والعامل بإطلاق، هو التسليم بوجاهتها من دون أن يرقى إليها الشك، وقلّة الوعي بها، إذ ليس بإمكانهما تصوّر أيّ تنظيم بديل للإنتاج.
لكن على الرغم من ذلك، توجد أيضاً اختلافات بين هتلر وترامب. فقد كان على هتلر التعامل مع معارضة سياسيّة قويّة ومحكمة التنظيم، ومتجذّرة، وأن يتصدّى لراديكاليّة قادمة من الاتحادات العماليّة الألمانيّة ومتحالفة مع أحزاب اشتراكيّة وشيوعيّة قويّة. لذلك مثّل القمع الداخلي الشديد، الذي شمل لاحقاً القتل الجماعي، طريقته لبلوغ أهدافه الكبرى: القضاء على النقد والمعارضة. أمّا ترامب، فلم يواجه إلى الآن شيئاً مشابهاً. وقد احتاج هتلر إلى تحديد «أجانب» داخل ألمانيا حتى يمكن لأتباعه تصريف غضبهم المتراكم ضدّهم، ووجد ضالّته في اليهود وفي مجموعات هامشيّة أخرى. وفي المقابل، يمتلك ترامب ما كان ينقص هتلر: عدد كبير من المهاجرين يمثلون حتى هذه اللحظة المجموعة الداخليّة التي يمكن صرف الغضب الجماهيري باتجاهها. وقد استهدف ترامب المهاجرين، لكن بإمكانه أيضاً التوسّع في اتجاه أكباش فداء تقليديّين متى وحيثما احتاج إلى ذلك.
كذلك توجد نقطة اختلاف أخرى، وهي امتداد الشركات عبر القطريّة المعولمة وارتفاع عددها، حيث أضحت استثماراتها ومصالحها أكثر تشتّتاً في العالم مما كانت عليه في الثلاثينيات. ومن هنا، فإنّ على ترامب مواجهة معارضتها لنزعته الاقتصاديّة القوميّة، ويجب عليه إمّا قمعها أو تكييفها؛ وهما مساران يمكن أن يقودا إلى هزيمته.
كذلك كان لهتلر حزب، وهو تنظيم قومي جماهيري أصيل شُيّد بشكل واضح ضد أحزاب اليسار واليمين الألمانية الكبرى. وهذا ما لم يقم به ترامب (بعد)، وهو يحافظ بالتالي على علاقة غير مستقرّة ومثقلة بالتناقض مع الحزب الجمهوري، بحيث يمكن لهذا الأخير أن يستوعب حزب ترامب أو أن ينضمّ إليه، لكن ذلك سيتطلب وقتاً طويلاً، هذا إن كان الأمر ممكناً أصلاً.
لقد قدم ترامب وعوداً عريضة حول استرداد الوظائف، وتوفير المعاشات والأمن لملايين الناس. وإذا ما فشل في الإيفاء بها، أو إذا حسّن وضعية مجموعة من مجموعات الطبقة العاملة على حساب أخرى، فإنّه سيثير عداءً هائلاً ضدّ شخصه وضدّ كلّ ما يمثّله. وقد سبق لأوباما أن ترك منصبه بعد أن خيّب رجاء ملايين الناس بخصوص الأمل والتغيير اللذين لم ينجزهما. وكما ساهمت خيبة أوباما بشكل كبير في فوز ترامب، فإنّ المسار نفسه يمكنه أن يتكرّر مع ترامب بشكل من المرجّح أن يكون أكثر حدّة. وإذا ما كان رعاة هذا المسار يجهلون هذا الأمر، فإنّ غداً لناظره قريب.
* من موقع «كاونتر بانش»