باريس | حين سخر فرنسوا فيون، في آب الماضي، من الفضائح القضائية التي تلاحق الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، قائلاً: هل يمكنكم تصوّر الجنرال ديغول متّهماً من قبل القضاء؟ لم يخطر بباله أن السحر سينقلب على الساحر بعد أشهر قليلة، ليجد نفسه، هو الآخر، ملاحقاً بفضائح فساد أفضت إلى تلقّيه، أمس، استدعاءً قضائياً للمثول أمام قاضي التحقيق، في 15 آذار الجاري، لتوجيه الاتهام إليه رسمياً بـ"استغلال النفوذ" و"اختلاس أموال عمومية".
مرشح "الجمهوريين" الذي خرج منتصراً من انتخابات اليمين التمهيدية، مدعوماً من قبل 4 ملايين ناخب، كان قد تعهّد، في 26 كانون الثاني الماضي، حين تفجّرت الفضائح المرتبطة بالوظائف الوهمية لزوجته وأولاده، بأنه سينسحب من المعترك الانتخابي في حال توجيه الاتهام له رسمياً من قبل القضاء. لكنه فاجأ الجميع، صباح أمس، حين أعلن في مؤتمر صحافي عقده في مقر حملته الانتخابية في الدائرة الخامسة عشرة من باريس، أنه لن يسحب ترشيحه، رافضاً الخضوع لما سمّاه "محاولة اغتيال سياسية".

بدا فيون معزولاً ومحاصراً إثر انسحاب عدد من حلفائه
من حملته

فيون حمل بشدة على القضاة، قائلاً إن "مبادئ دولة القانون انتُهكت بشكل صارخ"، معتبراً أنه "من خلال التحقيقات الأحادية الجانب، والتحامل الذي فاق كل الحدود، والرزنامة المتعمّدة (يأتي الاستدعاء القضائي الموجّه له قبل يومين فقط من موعد الاعتماد الرسمي للترشيحات الرئاسية)، لست أنا فقط من يراد اغتيالي، بل انتخابات الرئاسة هي التي تُغتال".
للتنصّل من تعهّده السابق بالانسحاب في حال توجيه الاتهام القضائي له بشكل رسمي، سعى فيون للتشكيك في نزاهة وحيادية التحقيقات القضائية التي تستهدفه، قائلا: "لن أرضخ، ولن أستسلم، ولن أتراجع. سأمضي الى الآخر، لأن التحدي بات أكبر من شخصي، فالديموقراطية هي المستهدفة". وأضاف: "أترك الحكم عليّ للشعب الفرنسي، لأن الاقتراع هو الذي يجب أن يحدد من سيكون رئيساً للجمهورية، وليست التحقيقات القضائية المسيّسة".
هذه الهجمة الجديدة على القضاة، بعد تهديدات مارين لوبن (راجع "الأخبار"، عدد أمس)، أرغمت الرئيس فرنسوا هولاند على الخروج من "واجب التحفظ"، للمرة الثانية خلال أسبوع واحد. فقد أصدر الإليزيه أمس، بعد أقل من ساعتين على المؤتمر الصحافي لفيون، بياناً قال فيه: "بوصفي (هولاند) حامي استقلالية القضاء، أحتج رسمياً على أي تشكيك في نزاهة القضاة بسبب التحقيقات والمتابعات القضائية التي يقومون بها ضمن الاحترام الكامل لدولة القانون".
هولاند وجّه تحذيراً وضع فيون على قدم المساواة مع مارين لوبن، حيث قال: "إن الترشيح لرئاسة الجمهورية لا يمسح لصاحبه بإثارة الشبهات حول عمل رجال الشرطة والقضاة، أو خلق جوّ من الريبة، من خلال توجيه اتهامات بالغة الخطورة إلى جهاز القضاء وإلى مؤسسات الدولة بشكل عام".
وفي تراشق غير مسبوق بين رئيس جمهورية ومرشح للرئاسة، وجّه هولاند رداً نارياً الى اتهامات فيون بتسييس القضاء، ومحاولته الالتفاف على تهم الفساد الموجهة اليه، عبر الدعوة "للاحتكام الى الشرعية الشعبية من خلال الانتخابات"، حيث اختتم نزيل الإليزيه بيانه قائلاً: "إن الشعب الفرنسي هو صاحب السيادة، وهو الذي ستعود اليه، بالفعل، الكلمة الفصل في انتخابات الرئاسة المقبلة. لكنني أذكّر بأن قرارات القضاء تُتّخذ أيضاً باسم الشعب الفرنسي. لذا لا يمكن لأي أحد أن يحاول الإفلات من العدالة".
بالرغم من أن فيون تجاهل بيان الإليزيه، وسارع الى استئناف حملته الانتخابية، بالتنقل الى معرض الزراعة المقام حالياً في باريس، فإنّ ردود الفعل تسارعت بعد مؤتمره الصحافي، وتوالت الانسحابات والاستقالات في صفوف مؤيديه وحلفائه. منافس فيون السابق في الانتخابات التمهيدية، برينو لومير، بادر، فور خروجه من المؤتمر الصحافي الذي عقده فيون، الى إعلان استقالته من منصبه كمسؤول عن الشؤون الأوروبية في الحملة الانتخابية لـ"الجمهوريين"، احتجاجاً على "إخلال فيون بكلمة الشرف التي تعهد بها أمام الفرنسيين، حين وعد بالانسحاب في حال توجيه الاتهام القضائي إليه بشكل رسمي"، تلته، بعد ساعات قليلة، نائبة رئيس البرلمان كاترين فوترين (مقرّبة من ساركوزي)، التي علّقت هي الأخرى نشاطاتها ضمن حملة "الجمهوريين"، داعية الى "تعيين مرشح جديد يستطيع أن يضع كل طاقته في الحملة الانتخابية، لأن فرنسوا فيون يجب أن يركز طاقته الآن في الدفاع عن شرفه أمام القضاء".
ولم تلبث العدوى أن انتقلت الى صفوف المقرّبين من آلان جوبيه، الذين كانوا حتى الآن الأكثر انضباطاً في تأييدهم لفيون، منذ فوزه في الانتخابات التمهيدية. فقد أعلنت السيناتورة فابيان كيلر انسحابها من حملة فيون، بحجة "استحالة استمرار الحملة في ظل هذا الجدل القضائي"، داعية فيون الى "اتخاذ قرار يأخذ في الحسبان ما هو أهم من مصيره الشخصي، وهو مصير فرنسا".
مع توالي استقالات العديد من النواب والوزراء السابقين، بدا فيون معزولاً ومحاصراً من كل جانب، وخاصة أن الامر لم يقتصر على الناقمين من داخل حزب "الجمهوريين"، فقد أعلن حزب "اتحاد الديموقراطيين المستقلين"، الذي يعدّ أحد التيارات الرئيسيّة المنتمية الى يمين الوسط، تجميد تحالفه الانتخابي مع "الجمهوريين"، الذي كان قد أُعلن عنه، صباح أمس، قبل ساعات قليلة من تسارع الأحداث، إثر تلقي فيون الاستدعاء القضائي.
انسحاب "الديموقراطيين المستقلين" شكّل ضربة قاسية لحملة فيون، لأن مرشح "الجمهوريين" كان يراهن على هذا الحليف الوسطي لمواجهة صعود ايمانويل ماكرون مجدداً، في استطلاعات الرأي، إثر تحالفه مع الوسطي فرانسوا بايرو. وبالرغم من أن أنصار فيون أعلنوا عن تنظيم مظاهرة شعبية في باريس، الأحد المقبل، تأييداً لمرشحهم، فإنّ حظوظ فيون باتت ضئيلة جداً، إذ يُخشى أن تكون هذه المظاهرة، في حال فشلها في حشد التأييد الشعبي، بمثابة شهادة وفاة "الرجل الشجاع" الذي كان يعد بتعزيز "الأخلاقيات" في الحياة السياسية، قبل أن تودي به الفضائح المالية.