باريس | تثير التظاهرات الاحتجاجية التي يشهدها، منذ منتصف الأسبوع الماضي، العديد من أحياء الضواحي الباريسية، وما يتخللها من مواجهات وأحداث عنف، مخاوف متزايدة في فرنسا من اندلاع «انتفاضة ضواحي» جديدة، على غرار تلك هزّت البلاد في خريف عام 2005.
وكانت هذه الأحداث قد تفجّرت احتجاجاً على «العنف البوليسي» الذي وقع ضحيته شاب من أصول مهاجرة، يُدعى «تيو»، تعرض للاغتصاب والضرب على أيدي أربعة من رجال الشرطة، في ضاحية «أولني سو بوا»، شمال ــ شرق باريس، مطلع الشهر الجاري. وهذا ما أعاد إلى الأذهان قضية «زياد البنّا وبونا طراوري»، اللذين قُتلا خلال مطاردة الشرطة لهما، في ضاحية «كليشي سو بوا»، في تشرين الأول/أكتوبر 2005، وكان ذلك سبباً في إطلاق شرارة «انتفاضة الضواحي» آنذاك.
انتفاضة سرعان ما امتدت، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2005، الى كافة أحياء الضواحي المحيطة بكبريات المدن الفرنسية، ودامت ثلاثة أسابيع، متسبّبة في خسائر قُدّرت بنحو ربع مليار يورو، إذ تم إتلاف 300 مبنى عمومي، وإحراق أكثر من 10 آلاف سيارة. وتم إعلان حالة الطوارئ في فرنسا، للمرة الأولى منذ نهاية حرب الجزائر، واعتُقل قرابة ألف شخص.
اللافت أن «العنف البوليسي» ليس السمة الوحيدة المشتركة بين أحداث الضواحي الحالية وتلك التي اشتعلت في خريف 2005، بل تجمع بينهما أيضاً لازمة باتت تتكرر كلما اقتربت الاستحقاقات الانتخابية في فرنسا، وتتمثل في الاستغلال السياسي المغرض لمثل هذه الأحداث، بهدف تخويف الناخبين من هذه الضواحي، التي تضم نحو1500 حيّ شعبي، وتشكّل «أحزمة فقر» تحيط بكبريات المدن الفرنسية، ويقطن فيها نحو 7 ملايين شخص، غالبيتهم من أصول مهاجرة.

يسعى اليمين لإعادة
قضايا الأمن والضواحي إلى واجهة الحملة الانتخابية

عام 2005، أسهمت التصريحات الاستفزازية التي أدلى بها نيكولا ساركوزي، الذي كان وزيراً للداخلية حينها، في تأجيج انتفاضة الضواحي. عِوَض فتح تحقيق حول ملابسات مقتل «زياد وبونا»، أعلن ساركوزي تضامنه مع رجال الشرطة، متحدثاً عن حقهم في «الدفاع في النفس»، في حين كان واضحاً أنّ الأمر يتعلق بجريمة قتل، وإن كانت غير عمدية، ما أشعل غضب شبان الضواحي. ثم عاد ساركوزي واستغل أحداث العنف للتلويح بتنظيف الضواحي باستعمال الـKarcher، كما قال، لتنقيتها ممن سمّاهم «الحثالات البشرية». ومن ثم اتخذ من قضايا الأمن والتأليب ضد سكان الضواحي والمهاجرين لازمة في سياساته، حتى فوزه بالرئاسة عام 2007.
على المنوال نفسه، سعى اليمين المتطرف إلى استغلال قضية «تيو»، الأسبوع الماضي، لإعادة قضايا الأمن والضواحي إلى واجهة الحملة الانتخابية الرئاسية. بدأ ذلك بتصريح تلفزيوني استفزازي لممثل إحدى نقابات الشرطة، المقرّبة من اليمين المتطرف، قال فيه إن استعمال رجال الشرطة الذين اعتدوا على «تيو» مصطلح bamboula (توصيف عنصري بحق المهاجرين كان مستعملاً بحق الأفارقة خلال الفترة الاستعمارية) أمر «لا يكاد يكون صادماً»، الأمر الذي تسبّب في إشعال فتيل المظاهرات الاحتجاجية، بعدما كان قد مضى أكثر من أسبوع على حادثة الاعتداء على «تيو» من دون حدوث أي مواجهات.
وقد سارع الرئيس هولاند إلى محاولة قطع الطريق أمام هذا الجدل، محذراً من عواقبه غير المحمودة، وخاصة أنه يأتي، كما قال، في فترة تعيش فيها البلاد حالة طوارئ، بسبب التهديدات الإرهابية الخارجية. وبادر الرئيس الفرنسي، فور تفجّر أولى المواجهات بين الشرطة وشبان الضواحي في «أولني سو بوا»، إلى زيارة «تيو» في المستشفى، واعداً بمقاضاة الجناة، بعدما بيّنت تحقيقات وزارة الداخلية أنهم ارتكبوا «تجاوزات خطيرة وغير مقبولة».
لكن ذلك لم يمنع مرشحة اليمين المتطرف للرئاسة، مارين لوبن، من الدفاع عن رجال الشرطة المعتدين على «تيو»، بحجة أن من واجب الدولة التأكيد على «حق رجال الشرطة في الدفاع عن النفس». تصريحات وصفها مرشح الحزب الاشتراكي، بونوا هامون، بأنها «تتعمّد صبّ الزيت على النار». بالفعل، لم تكد تمر ساعات على استفزازات لوبن، حتى اتسعت رقعة الاحتجاجات، لتعمّ كامل أحياء الضواحي الباريسية، ولينتهي الأمر بمواجهات بالغة العنف، مساء السبت الماضي، خلال تجمع أقيم أمام قصر العدالة في ضاحية «بوبيني».
بدوره، دخل مرشح «حزب الجمهوريين» اليميني فرنسوا فيون، على خط المزايدات الانتخابية، محمّلاً الحكومة الاشتراكية مسؤولية أحداث العنف في «بوبيني»، بحجة أنّ السلطات كان عليها أن تمنع التظاهرات الاحتجاجية، بحكم حالة الطوارئ، ما دفع رئيس الحكومة برنار كازنوف إلى الرد بحزم على ما سمّاه «تلاعبات ذات أغراض انتخابية»، مؤكداً أنه سمح بإقامة تجمع «بوبيني» لأن غالبية المشاركين فيه كانوا سلميين، وأن أعمال العنف التي سُجّلت «اقترفتها أقليات عنيفة لا تمثل غالبية المشاركين في التجمع».
من جهتها، حذرت وزارة الداخلية الفرنسية من مخاطر تجدد الاحتجاجات واتساع رقعتها، وخاصة أن نداءات قد رُصدت، أمس الإثنين، على شبكات التواصل الاجتماعي، للدعوة الى احتجاجات جديدة، خلال الأسبوع الحالي، ومنها تجمع كبير في «درانسي»، ثانية أكبر الضواحي الباريسية بعد «أولني سو بوا»، ما ينبئ بأن إشكاليات الأوضاع الأمنية في مدن الضواحي مرشحة لأن تبقى في واجهة الحملة الانتخابية، قبل أقل من ثمانية أسابيع على موعد الاستحقاق الرئاسي. وضعٌ قارنه مرشح اليسار الراديكالي، جان ــ لوك ميلانشون، بالأجواء المشحونة التي ألقت بظلالها على انتخابات الرئاسة، عام 2007، وأسهمت في إيصال ساركوزي إلى سدة الإليزيه. وأدان ميلانشون إطلاق اليمين المتطرف، أمس، «عريضة وطنية للدفاع عن رجال الشرطة»، محذراً من «وجود نية مبيّتة لتكرار الاستفزازات السياسة، لأن البعض، في ما يبدو، يتمنون انفجار الضواحي، لأن من مصلحتهم أن تجري انتخابات الرئاسة على خلفية من العنف والتجاوزات المختلفة».