فجأة، ومن دون مقدّمات، عاد التوتر بين روسيا وأوكرانيا ليحتل صدارة الأحداث العالمية. لا يمكن وضع التدهور الجديد، بعد الهدن العسكرية والكلامية، سوى في إطار اختبار أوّلي للعلاقات الروسية ــ الأميركية، بعد أيام قليلة على تسلّم دونالد ترامب مفاتيح البيت الأبيض.
من غير الواضح، بطبيعة الحال، من الذي أطلق هذا «الاختبار». في الغرب، يقولون إن فلاديمير بوتين أراده، لا سيما أن للرئيس الروسي باعاً طويلاً في الإقدام على مبادرات تكتيكية، في رقعة الشطرنج الكبرى، وهو ما تبدّى، على سبيل المثال، حين خاض سباقاً مع الزمن في الفترة الانتقالية الفاصلة بين عهدي باراك أوباما ودونالد ترامب، لفرض أمر واقع على الرئيس الجديد، سواء في سوريا، أو في مناطق أخرى في الشرق الأوسط.
وأمّا في روسيا، فثمة تأكيد على أن التصعيد ــ الاختبار، هو من صنيعة الجانب الأوكراني، للتشويش على الأجواء الإيجابية السائدة على خط الكرملن ــ البيت الأبيض، لا سيما أن القيادة الروسية أبدت، على لسان كافة مسؤوليها، بمن فيهم فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، رغبة في حل الأزمة الأوكرانية، عبر الحوار، والدليل على ذلك أنها لم ترد بالمثل على العقوبات التي فرضها باراك أوباما على الديبلوماسيين الروس، في أيامه الأخيرة، وهي الخطوة التي وصفها ترامب نفسه بأنها تنم عن ذكاء، ورأى فيها كثيرون أنها بمثابة مبادرة تكتيكية لفتح الباب أمام تطبيع العلاقات الروسية ــ الأميركية.
في الواقع، ثمة مؤشرات كثيرة تنمّ عن رغبة القيادة الأوكرانية، ممثلة برئيسها بيوتر بوروشينكو، في توتير الأجواء السائدة في مرحلة فك الشيفرات المعقّدة في العلاقات الروسية ــ الأميركية، بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض. وكان واضحاً، خلال الأيام الماضية، أن أوكرانيا هي من لجأ إلى التصعيد، أقله السياسي، لا سيما في ظل حديث بوروشينكو عن تنظيم استفتاء شعبي بغرض الانضمام إلى الحلف الأطلسي، قائلاً إن نسبة التأييد لهذا تصل إلى 54 في المئة من الاوكرانيين، وفي ظل إطلاق الاتهامات بحق روسيا حول إطلاق النار على طائرة مدنية خلال تحليقها في أجواء البحر الأسود. وبطبيعة الحال، فإن أوكرانيا معنية جداً بدفع الأمور نحو «اختبار» التموضعات الجديدة.
وليس من الصعوبة بمكان أن يعمد الجانب الأوكراني إلى تفجير الموقف، وإلقاء اللوم في ذلك على من يصفهم بـ«الانفصاليين الروس»، في منطقة شهدت آلاف الانتهاكات لاتفاقية وقف إطلاق النار الموقّعة في مينسك في عام 2015.
هذا السيناريو يمكن أن ينطبق على الجانب الآخر، أي على مقاتلي جمهورية دونيتسك الشعبية، الذين اكتسبوا جرعة تفاؤل، بعد الخلاص من كابوس أوباما الذي يحمّلونه قسطاً كبيراً من المسؤولية عمّا يجري، نتيجة لدعمه السياسي والعسكري لكييف. ومع ذلك، فإن الكل يعلم بأن أي خطوة عسكرية من جانب الموالين لروسيا في الميدان العسكري لن تكون ممكنة، من دون الاستحصال على ضوء أخضر من الكرملن، وهو ما زال موضع شكوك، إذا ما نحّينا جانباً الاتهامات المنحازة من قبل بعض المسؤولين الأميركيين.
وما يعزز فرضية إقدام أوكرانيا على التصعيد، أن الأسابيع الماضية شهدت قيام القوات الحكومية بتعزيز مواقعها حول مواقع «الانفصاليين» في الشرق. وأمّا الذريعة، فهي الخشية من تفاهمات قد يتوصل إليها ترامب وبوتين، بما يفضي إلى ضم المناطق المتنازع عليها إلى روسيا، وهو أمر يتطلب بشكل خاص الدفاع عن بلدة افدييفكا الاستراتيجية، التي تدور حولها المعارك حالياً، وسط معلومات عن تقدم القوات الموالية لروسيا باتجاهها، بواقع خمسة أميال إلى الشرق من مدينة دونيتسك.
علاوة على ذلك، فإن مجريات المعارك خلال الأيام الماضية، تكشف عن أن ثمة خطة أوكرانية للتقدم عسكرياً باتجاه المنطقة العازلة، ما يعني أن ثمة رغبة مبيّتة من جانب كييف لتعديل الـ«ستاتيكو» القائم بموجب اتفاق مينسك، وتغيير الوقائع على الأرض، بما يُكسبها أوراق قوة في أي مفاوضات جديدة، قد تلي التصعيد الأخير، في حال خسرت التأييد الكافي من جانب إدارة ترامب.
وليست مصادفة، على أيّ حال، أن يأتي الخرق الخطير لاتفاقية مينسك، وهو الأول على هذا المستوى منذ كانون الأول الماضي، بعد يوم على المكالمة التي أجراها الرئيسان ترامب وبوتين، وهي الأولى منذ تسلم الأول منصبه الرئاسي، وفي اليوم الأول من تولي أوكرانيا الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي، وتخصيصه جلسة الثاني من شباط (مساء أمس) للبحث في الأوضاع المتدهورة في الشرق الأوكراني.

تبدو كييف معنية
جداً بدفع الأمور نحو اختبار التموضعات الجديدة

ولا شك في أن المؤشرات التي رصدها بوروشينكو من واشنطن وبروكسل لم تكن مطمئنة؛ فمن جهةِ دونالد ترامب، ثمة تسريبات نقلها مسؤولون أميركيون وروس، غداة الاتصال الهاتفي «الودّي» مع بوتين، مفادها أن الرئيسين متوافقان على «التعاون» و«الشراكة» في مقاربة الملفات الحساسة، بما في ذلك الوضع في أوكرانيا. وعلى الضفة المقابلة من المحيط الأطلسي، كان حلف «الناتو» يفجر قنبلة مدوية في وجه الأوكرانيين، بعد تسريب معلومات إلى صحيفة «وول ستريت جورنال» بشأن تعليق المفاوضات مع كييف بشأن إشراكها في الدرع الصاروخي في أوروبا، خوفاً من رد فعل روسي سلبي.
ويبدو أن ردّ الفعل الأميركي على الأحداث الأخيرة قد رفع من منسوب الحذر لدى بوروشينكو. فبخلاف الجولات التصعيدية السابقة، حين كانت إدارة أوباما تدين بأشد العبارات «الاستفزازات» الروسية في شرق أوكرانيا، فإن موقف البيت الأبيض من التطورات الأخيرة جاء باهتاً، إذ اكتفى المتحدث الرئاسي الأميركي شين سبايسر بالتعليق على الأحداث بعبارة «نحن نراقب التطورات الجارية». حتى إن صحيفة «روسيسكايا غازييتا» المقرّبة من الكرملن احتفت بهذا الموقف، فكتبت أن «واشنطن لم تلقِ باللائمة على الجمهوريات (الانفصالية)، ولم تبدِ دعمها لكييف، كما أنها لم تنطق بكلمة واحدة بشأن الدور الروسي».
ومن المؤكد أن دوائر القرار في كييف قد استقبلت كل تلك الأجواء على خط موسكو ــ واشنطن بنظرة تشاؤمية، بشأن فقدان الحليف الأميركي في الصراع الدائر مع روسيا، بعد عصر ذهبي من التعاون الوثيق خلال عهد باراك أوباما، والذي أثمر عدداً من الاتفاقيات الثنائية. وبالرغم من إدانة السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، أمس، «الأعمال العدائية» لروسيا في أوكرانيا، في أول تصريح علني لها لمجلس الأمن الدولي، مضيفة: «نحن نريد تحسين علاقاتنا مع روسيا، لكن الوضع المزري في شرق أوكرانيا هو أحد الأمور التي تتطلب إدانة واضحة وقوية للأعمال الروسية»، فإنّ ثمة من يعتقد أن الرئيس الجديد لن يلعب الورقة الأوكرانية في علاقاته المقبلة مع الروس، وذلك لأسباب كثيرة، أبرزها مشاريع التعاون التي تسيل لعاب الفريق الاقتصادي للرئيس الأميركي، والأولويات الجديدة للإدارة الأميركية، وعلى رأسها التعاون مع روسيا لمكافحة الإرهاب.
ولكن ذلك لا يعني بطبيعة الحال أن التصعيد سيتوقف. فما لا يستطيع بوروشينكو تحقيقه مع الولايات المتحدة، من خلال التصعيد العسكري، يمكن أن يؤتي أكله مع حلفائه الأوروبيين. ولذلك، فإن «اختبار» الدونباس (شرق أوكرانيا) قد يكون الهدف منه تحديد الموقف الأوروبي من «الاستفزازات» الروسية المزعومة، لا سيما أن العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد بدأت تشهد فتوراً، كنتيجة طبيعية لتوجهات ترامب في السياسة الخارجية.
وفي هذا السياق، فإن أوكرانيا ستكون مضطرة إلى خوض سباق مع الزمن للاستفادة القصوى من الدعم الأوروبي، خصوصاً أن الكثيرين من حلفائها الأوروبيين يستعدون لمغادرة مناصبهم القيادية، في وقت تفقد فيه بريطانيا تأثيرها على سياسات الاتحاد الأوروبي بعد الـ«بريكست».




لماذا افدييفكا؟

منذ بدء الصراع في شرق أوكرانيا، كانت بلدة افدييفكا هدفاً استراتيجياً لكل الأطراف المتناحرة. في نيسان عام 2014، نجح المقاتلون الموالون لروسيا في السيطرة على تلك البلدة الصناعية، لكن القوات الحكومية تمكنت من استعادتها بعد أشهر، معززة وجودها بشكل مثير للانتباه، سواء داخل البلدة، أو عند أطرافها، التي باتت منذ ذلك الحين أهم نقاط الاقتتال.
وتكمن أهمية البلدة في أنها تضم أكبر منشأة لإنتاج الغاز الطبيعي، المستخدم للتدفئة وتوليد الكهرباء. وأما على المستوى العسكري، فإن البلدة تعد مفترق طرق أساسياً، ليس فقط للإمداد العسكري واللوجستي وانما في كونها تشكل شرياناً محورياً لكامل المناطق الشرقية، بما في ذلك مدينة مارويوبول، المطلة على بحر أزوف. وتشكل مارويوبول آخر نقطة على الطريق السريع «اتش 20» الممتد من الشمال إلى الجنوب، وعندها يتقاطع الطريق السريع «اتش 58» الممتد من الشرق إلى الغرب. وهنا تبرز أهمية افدييفكا، باعتبارها التقاطع بين الطريق السريع «اتش 20»، المتقاطع بدوره مع الطريق السريع «اتش 50» الممتد أيضاً من الشرق الى الغرب. ولا شك أن السيطرة على الطريق السريع يكتسب أهمية استراتيجية، ليس بالمنظور العسكري فحسب، وإنما في تأمين التواصل بين كل المناطق الشرقية، إذا أفضت التطورات الى تغيير في الخريطة السياسية لشرق أوكرانيا.