منذ اللحظات الأولى التي أعلن فيها فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، طغت أصوات الترحيب لدى معسكر اليمين في إسرائيل. أكثر ما استندت إليه هذه الأصوات هي مواقف ترامب المعلنة إزاء قضايا الاستيطان والتسوية على المسار الفلسطيني. مع ذلك، لا تلغي الفرحة الإسرائيلية منابع القلق المتصلة بعدد من ملفات الساحة الإقليمية بدءاً من الساحة السورية، ووصولاً إلى التحدي الذي تمثله الجمهورية الإسلامية في إيران لكلا الطرفين: الأميركي والإسرائيلي.
منشأ طابع التحدي، الذي قد يواجه تل أبيب، يعود إلى حقيقة أن السياسة الأميركية، التي تعرضت إلى انتقادات إسرائيلية وخليجية في عهد باراك أوباما، هي نتاج أزمة إمبراطورية أكثر من كونها أزمة رئيس؛ ولو لم تكن كذلك، ما شهدنا قيادات على شاكلة أوباما وترامب لجهة خياراتهما الخارجية والعملانية التي لا ترقي إلى طموحات حلفاء واشنطن، أو على الأقل، لكان أوباما غير الذي عرفناه، ولشهدنا ترامب من دون (بعض) شعاراته ومواقفه الخارجية.
في المقابل، منشأ التقدير الإسرائيلي للفرصة، التي يوفرها انتخاب ترامب، يعود بالدرجة الأولى إلى مواقفه المعلنة المتصلة بالمسار الفلسطيني. والفرضية السائدة بقوة في تل أبيب هي أن تولي ترامب سيكون مريحاً لإسرائيل، وقد تشكل رئاسته فرصة ملائمة لليمين كي يفرض كامل سياساته الاستيطانية ويكرّس الوضع القائم. التجلي الأبرز للارتياح الإسرائيلي يتمثل في تعهد نقل السفارة الأميركية إلى القدس. ومن أجل تبديد بعض الهواجس، عاد ترامب وأكد لمراسل صحيفة «إسرائيل اليوم» أنه لم ينس وعده بشأن نقل السفارة، مؤكداً أنه لم يعد يستطيع «الانتظار لبدء العمل مع إسرائيل... في نهاية الأسبوع سيبدأ الاتصال بيننا رسمياً».
لا يخفى أن قراراً كهذا ينطوي على ما يكفي من الرسائل التي تضع عملية التسوية أمام منعطف خطير، ويشكل ضربة قاصمة لأنصار التسوية في الوسط الفلسطيني؛ وفي الوقت نفسه، يجسد الطموح اليميني الذي يريد تسقيف طموحات التسوية في الوسطين الإسرائيلي والفلسطيني.
الإشكالية الأبرز، التي تبدو حاضرة بقوة في أروقة القرار في تل أبيب، تتمثل في خيارات ترامب المعلنة في الساحة السورية، التي تضع أولوية لمحاربة تنظيم «داعش»، مقابل تحييد النظام السوري والرئيس بشار الأسد والتعاون مع روسيا. ما يُعزِّز القلق الإسرائيلي أن التحدي الإستراتيجي الأهم الذي يواجه تل أبيب على مستوى المنطقة، يتمثل في مستقبل المعركة الدائرة في الساحة السورية، والتخوف من أن تنتهي بانتصار محور المقاومة وتكريس الأسد.
ترى تل أبيب أن العامل الأساسي الذي سمح بتبلور هذه النتائج هو الانكفاء الأميركي عن التدخل المباشر بما يُغير موازين القوى لمصلحة الجماعات المسلحة، لكن توجهات ترامب لا تبدد القلق بل تعززه، خاصة أنه سيحاول التعويض عن إخفاق إدارة أوباما بالتعاون مع موسكو، وهو خيار ينطوي من منظور إسرائيلي على مخاطر مهما بلغ التناغم بين الطرفين. ويعود ذلك إلى أن موسكو ترتبط بتفاهمات وتقاطعات مع محور المقاومة وطهران، الأمر الذي قد يحد مفاعيل أي تفاهم مع واشنطن ــ ترامب.
في ضوء ذلك، يبقى أداء إدارة ترامب المفترض على الساحة السورية بعيداً عن الآمال الإسرائيلية التي عبر عنها المسؤولون الرسميون في تل أبيب، خاصة بنيامين نتنياهو، لجهة أولوية منع بقاء سوريا كعمق إستراتيجي للمقاومة في لبنان، وكحليف إستراتيجي لإيران. مع ذلك، يبقى هناك عدد من السقوف التي قد تسعى إليها إسرائيل في ظل هذه الخيارات المفروضة، وهنا تكمن محطة الكباش المفترضة.

اطمأنت تل أبيب إلى مواقفه من فلسطين لكنها تتخوف بشأن سوريا وإيران

في الموقف من إيران، تتسم المسألة بقدر من الغموض في تل أبيب، لأنه خلال الحملة الانتخابية كان ترامب قد هدّد بتمزيق الاتفاق النووي إلى أشلاء، لكنه حينما يدخل البيت الأبيض، ستحتل السياسة الواجب اتباعها ضد إيران أهم القضايا المطروحة على طاولة البحث عنده. ومن المؤشرات السلبية في تل أبيب، حتى الآن، تراجع سقف الموقف الأميركي، وهو ما برز على لسان المرشح لمنصب وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس، الذي قال خلال جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ، إنه رغم أن الاتفاق ليس جيداً، لكن يجب على الولايات المتحدة تنفيذ التزاماتها.
كذلك أكد وزير الخارجية ورئيس جهاز الاستخبارات المركزية (CIA)، مكامن الضعف في الاتفاق، علماً بأن الأخير وماتيس التزما مراقبة تنفيذه بدقة ورفضا فعل خطوات لخرقه (صحيفة «يديعوت أحرونوت، عاموس يادلين، 19/1/2017).
في ضوء هذه المعطيات، لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى ما يضمن «تمزيق الاتفاق» والذهاب نحو خيارات بديلة في المرحلة الحالية، وحتى لو لم يلبّ أداء ترامب في هذه القضية الطموح الإسرائيلي، قد ترى تل أبيب في موقفه المبدئي المعارض بشدة للاتفاق أرضية لتفاهمات مشتركة في مواجهة طهران، ولمواجهة أي خرق للاتفاق النووي، حتى لو كان رداً على محاولات أميركية في الالتفاف على تنفيذه، بما في ذلك التنسيق استعداداً للتدحرج نحو خيارات عسكرية.
الهمّ الإسرائيلي الإضافي هو محاولة تعزيز قدرة الردع ضد إيران التي تدعم قوى المقاومة المعادية لإسرائيل، وصولاً إلى العمل على كبح تطور برنامج الصواريخ البعيدة المدى، لكن هناك حقيقة إضافية قد تكون منبعاً للإرباك في تل أبيب، وتتمثل في صعوبة توقع رد فعل الرئيس الأميركي الجديد في حال اكتشافه قيود القوة التي عادة ما يتلمسها صنّاع القرار لدى توليهم مناصبهم، وهو ما قد يضعه أمام البحث عن خيارات بديلة.