استيقظ الأوروبيون، أول من أمس، على دعوات قادة بلادهم إلى رص الصفوف في مواجهة تصاريح دونالد ترامب. لكن «دعوات "الوحدة الأوروبية" تنقل أزمة "الاتحاد" من المجال الاقتصادي البنيوي إلى المجال "الثقافي"، ليصبح الخطر الوجودي يتمثل بـ"المد اليميني القومي" وصعود ترامب والرئيس الروسي و"أزمة اللاجئين"، لا ببنية الاتحاد القائمة على أسس تهدف إلى إتمام دورة "إعادة تدوير الفائض" لبعض الدول، عبر إزالة الحدود النقدية بين الدول المصدّرة والآخرين. لكن وحدها حالة اليونان توضح سياسات الاتحاد الأوروبي المرعبة. فهنا، اطمأنت "دول الفائض" إلى أن الديون التي تمنحها (تُقرأ: تفرضها)، ستُمكّن المستهلكين من امتصاص فائض إنتاجها، وعندما تتأزم الأمور لن تتمكن الدول المدينة من تخفيف الدين لأنّ العملة موحدة... ليكون خيارها الوحيد فرض سياسات تقشف ومراكمة المزيد من الديون، بما يمنع من إدخال تعديلات جذرية على بنية الاقتصاد المحلي

للاتحاد الأوروبي "نشيد" موسيقي اسمه "نشيد الفرح"، هو سمفونية المؤلّف الألماني لودڤيغ ڤان بيتهوڤن التاسعة التي كتبها لقصيدة "أنشودة الفرح" للشاعر الألماني (أيضاً) فريديريتش شيلر.

أراد مؤسّسو الاتحاد الأوروبي أن يعبّر النشيد بعظَمة موسيقاه ونُبل كلام قصيدته التي تمجّد "الأخوّة والصداقة بين البشر" عن هوية منظمتهم ومبادئ "الحرية والسلام والتضامن" التي بنوا اتحادهم على أساسها.
بدت الصورة جميلة في التسعينيات: دول "اخوة" يتّحدون تحت مظلّة ترعى سياساتهم وتنظّم اقتصادهم. صدّق العالم حينها الصورة الوردية، وسَكِر معظم الأوروبيين بأنشودة الفرح. وبعد؟ ضُرب الاقتصاد الدولي بأزمة حادّة بعد حوالى ١٥ سنة على الانطلاقة الفعلية للاتحاد الأوروبي وتوسّعه، فأُصيبت بعض الدول "الإخوة" بشكل مباشر من جرّاء الأزمة، وبات اقتصاد اليونان على شفير الانهيار في نهاية عام ٢٠٠٩. ماذا فعل "الاتحاد الأم" تجاه ذلك؟ سارع إلى حماية مصالح أصحاب الأموال وتَرَكَ اقتصاد اليونان ينهار وعاقب اليونانيين على ضعفهم! وماذا يفعل "الاتحاد" حيال أزمة اليونان اليوم بعد سبع سنوات على تخبّطها في المأساة الاقتصادية؟ لا شيء سوى مفاقمة الكارثة وتحميل مواطنين أوروبيين تبعات أزمة ليسوا هم من تسببوا فيها، بل تعود، بجزء مهم منها، إلى سياسات الاتحاد المالية التي اعتمدها منذ فرض منطقة اليورو وربط الأسواق الأوروبية وإخضاعها للدول ذات الاقتصاد الأقوى.
لم تعترف الحكومة الفرنسية في السنوات السبع الأخيرة بأن الاتحاد الذي ساهمت فرنسا في تأسيسه، يرتكب مجزرة اقتصادية في دولة شقيقة (فرنسا هي ثاني أكبر دولة دائنة لليونان، حوالى ٤٣ مليار يورو، بعد ألمانيا التي يبلغ دينها حوالى ٦٨ ملياراً). ولم يشرح المسؤولون الألمان سبب رفضهم المتعنّت إعفاء اليونان من بعض الديون ــ أصل الكارثة. لم يصدر عن دول الاتحاد الأوروبي الأخرى أيّ خطط بديلة أو اقتراح غير الذي تطرحه الدولة الأقوى اقتصادياً بين "الإخوة": ألمانيا.

بعد سبع سنوات على الكارثة، يتحمل اليونانيون تبعات أزمات غيرهم

ويفرض مانحو الديون لليونان (الاتحاد الأوروبي، صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي) على الحكومة اليونانية سياسة تقشّف صارمة مقابل تلك المبالغ، أي إن المقرضين يشترطون منذ عام ٢٠١٠ على الحكومة اليونانية تخفيض الإنفاق الى أقصى الحدود، ما دفع الحكومات اليونانية المتعاقبة والراضخة لتلك الشروط الى إلغاء عدد كبير من الخدمات، وخفض رواتب العاملين في القطاع العام، ورفع سنّ التقاعد الى ٦٧ عاماً، وزيادة الضرائب... كل ذلك بهدف أن يصل الناتج المحلّي اليوناني إلى مستوى يرضى عنه المقرضون. وقد أثبتت هذه السياسة منذ سنوات تطبيقها الأولى فشلاً ذريعاً في حلّ مشكلة اليونان الأساسية وشلّت البلاد وحمّلت المواطنين أعباءً معيشية لا تطاق. وفي حين تسجّل اليونان تراجعاً متزايداً في النمو منذ اعتماد الخطة الأوروبية تلك، فإنّ الجهات المقرضة تصرّ على الاستمرار في زيادة الديون اليونانية والمضي بفرض التقشّف الكارثي. وبناءً على ذلك، كيف سيتحمّل شعب غارق في أزمة معيشية ونسبة بطالة بلغت ٢٥٪، زيادةً ضريبية وانخفاضاً في الخدمات الأساسية ومراكمة جبال من الديون؟
"سياسة التقشّف هي فكرة ضعيفة ومفلسة، خطيرة من الناحية الاقتصادية ومريبة جداً من الناحية الأخلاقية"، يقول يانيس ڤاروفاكيس، وزير المالية السابق في حكومة أليكسيس تسيپراس الأولى، الذي اصطدم مع الوزراء الأوروبيين بشأن سياسة الديون والتقشف، واستقال بعد ٦ أشهر، احتجاجاً على مضي الحكومة اليونانية في الخضوع للتدابير الأوروبية وشروط صندوق النقد الدولي.
وفيما شهد ائتلاف "سيريزا" انشقاق ٢٥ من نوّابه اتهموا رئيس الحكومة، تسيبراس، بـ"خيانة مبادئ الحزب والتراجع عن وعوده لليونانيين بإنهاء سياسة التقشّف"، يدافع رئيس الحكومة حالياً عن أدائه بالقول إن ما "وافق عليه حتى الآن كان لا مفرّ منه"، مضيفاً أنّ استراتيجيته لإنقاذ اليونان هي "في شوطها الأخير". وما زالت فئات من الناخبين تعلّق آمالاً على كلام رئيس الحكومة، لكن يبدو أنّ غضباً عارماً يسكن النفوس.
في هذا الاطار، لا يبالغ الحزب الشيوعي اليوناني، أحد أبرز المعترضين على السياسة الأوروبية وعلى انصياع الحكومات اليونانية لها، عندما يقترح حلولاً ثورية جذرية لتغيير النظام الاقتصادي اليوناني بكامله من رأسمالي إلى اشتراكي. هذا ما يؤكّده الباحث نيكوس موتاس الذي يرى أن "ما من حلول سهلة للوضع اليوناني، لأن المطلوب هو إسقاط النظام الرأسمالي وقطع كلّ العلاقات به"، ما يشكّل في نظره (وهو صحاب الخلفية الماركسية ــ اللينينية) "الحلّ الواقعي الوحيد الذي يصبّ في مصلحة الشعب وليس في مصلحة رأس المال".

سياسة التقشّف الأوروبية ضعيفة ومفلسة وخطيرة من الناحية الاقتصادية


وعن فكرة خروج اليونان من الاتحاد الاوروبي ومن منطقة اليورو، ما سمّي بالـGrexit، يشرح موتاس أن الخروج "سيؤدي الى إفقار المواطنين والإطباق على شعب مفلس ودولة مفلسة داخل جدران نظام رأسمالي، لذا فالبقاء في الاتحاد أو الخروج منه ستكون له تداعيات سلبية على الطبقة العاملة ما دام النظام الرأسمالي هو المسيطر" على أطر الاقتصاد المحلي.
كيف سيبدو عام ٢٠١٧ إذاً؟ لا يبدو موتاس متفائلاً، فهو مقتنع بأن "سيريزا" وبقية الأحزاب "البورجوازية على اختلاف سياساتها... سيستمرون في تضليل اليونانيين وإخبارهم بأن الإصلاحات التي يعتمدونها ستنهي الأعباء وستخفف من تضحياتهم" عمّا قريب. ويرى موتاس أنّ الحكومة اليونانية ستبقي على سياساتها "المعادية للمواطنين"، وهي مستعدة لفرض تدابير تقشّفية جديدة، ما يعني أنّ العام الجاري لا بد أن يكون "عاماً صعباً جديداً بالنسبة إلى الطبقة العاملة وذوي الدخل المحدود".

أزمة اللاجئين... إلى تفاقم؟

من جهة أخرى، كرّس الاتحاد الأوروبي بعض جزر اليونان كمحطة "للاجئين الهاربين بانتظار السماح لهم بالانتقال الى الداخل الأوروبي". لكن هؤلاء باتوا سجناء على أرض بلد يعاني أصلاً من أزمة معيشية خانقة وغياب للخدمات. ولا بد أن يزيد قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بإعادة طالبي اللجوء الى اليونان، ابتداءً من آذار المقبل، الأوضاع سوءاً بالنسبة إلى الطرفين.
ويرى موتاس أن موقف اليونان والاتحاد الأوروبي "خبيث جداً"؛ ففي حين "يدعم الاتحاد بكل الوسائل التدخلات الإمبريالية في سوريا وفي الشرق الأوسط، يقدّم نفسه كحامي للاجئين وراعيهم". ويأسف الباحث اليوناني لتحوّل قضية اللاجئين إلى "أداة سياسية بيد الاتحاد الأوروبي وتركيا، كما يأسف لتوقيع اليونان على الاتفاق الأوروبي التركي الذي حوّل اللاجئين الى عالقين على الجزر اليونانية، وسط ظروف حياتية صعبة جداً".
وبخصوص الاتفاقات العسكرية والسياسية، كما في الاقتصاد، يقول موتاس إن "على الحكومة أن تنسحب من أي اتفاق يسمح بتدخل حلف شمال الأطلسي في بحر إيجه"، كذلك يجب "ألا تؤمن أي مساعدة أو تسهيلات أو قواعد برية جوية أو بحرية للقوى الإمبريالية في حروبها وتدخلاتها العسكرية" في بلدان أخرى.
ماذا عن الشعب اليوناني؟ كيف سيواجه عاماً صعباً جديداً؟ يقول موتاس إن "صبر الطبقة العاملة اليونانية لن يدوم الى الأبد، ما داموا يعرفون أن تغيير الأمور في أيديهم".




«سيريزا»... دفع نحو «الخيانة»



"سيريزا"، ويعني باليونانية العودة إلى الجذور، كان يُنظر إليه على أنه "ائتلاف اليسار الراديكالي" الذي فاجأ الاتحاد الأوروبي بفوزه بالانتخابات النيابية في كانون الثاني ٢٠١٥، إذ حصل على ٣٦،٣٤٪ من الأصوات (١٤٩ مقعداً في البرلمان من أصل ٣٠٠).
تأسس الائتلاف عام ٢٠٠٤، وضمّ عدّة أحزاب يسارية يونانية. رفع في انتخابات ٢٠١٥ شعارات بثّت الآمال مجدداً في نفوس اليونانيين الذين كانوا يتخبطون في الأزمة المالية الكارثية منذ نهاية عام ٢٠٠٩، والتي ساهمت في ملامسة الديون عتبة الثلاثمئة مليار يورو. وعد الائتلاف، بشخص زعيمه أليكسيس تسيبراس، بوقف سياسة التقشف وبمواجهة شروط الاتحاد الأوروبي وأوامر بنك النقد الدولي وبتحقيق العدالة ومحاربة الفساد، وسداد جزء من الديون عبر فرض عائدات ضريبية على الشركات الخاصة.
لكن عقب تشكيل "سيريزا" حكومة جديدة، اصطدم قادته بجدار الأنظمة الأوروبية ولا سيما ألمانيا، وواجهوا صعوبات كثيرة بإقناع دول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد بالموافقة على مقترحاتهم. وبعد أشهر من المباحثات، رضخ تسيبراس للشروط الأوروبية ولشروط "صندوق النقد"، ووافق على الاستمرار بسياسات التقشف، برغم أنّ اليونانيين رفضوا في استفتاء نُظّم في شهر تموز 2015 خطة الدائنين. وأدى الأمر إلى استقالة وزير المالية يانيس ڤاروفاكيس الذي اختلف مع تسيبراس، ورأى في الاتفاقية التي يسعى الدائنون لفرضها على اليونان أنها بمثابة "اتفاقية فرساي جديدة"، مضيفلً أنّ البنوك حلت مكان الدبابات كأداة مثلى للانقلاب على السلطة... في دلالة جديدة على أنّ فترة حكم "سيريزا" وصراعه مع الاتحاد وانكساره، تؤكد على الدور التدميري الذي لعبه الاتحاد بدم بارد مع اليونان.