ناغورنو كاراباخ | عشر ساعات استغرقت الرحلة من يريفان إلى ستيباناكرت. مشقة الوقت تعفيها الطريق بين الجبال القوقازية. جبل يسند جبل، ومن نهر على كتف واد إلى تلة بحجارة مختلفة. طبقات صخرية ملوّنة تلهي الزائرين الجدد من تعب أعياهم. نجتاز معبر لاشين دون الشعور بدخولنا دولة أخرى. سيارة أمامنا تكفلت لصق «فيزا» على جوازات السفر. هذا الكوريدور الجغرافي بين أرمينيا وجمهورية «ناغورنو كاراباخ» كان الفاصل عن «العدوة» أذربيجان.
في عام 1992، سيطرت «قوات الدفاع» على مدينة شوشي وجرى فتح ممرّ في منطقة لاشين، ومن يومها حُيّد جزئياً الحصار المطبق على «الجمهورية» الوليدة، عبر توسّع الرئة الأرمنية. هنا «ارتساخ»، كما يسميها مواطنوها... دولة برئيس وحكومة وعلم ونشيد وجيش. في العاصمة ستيباناكرت، الطرقات الواسعة المنظمة لا تشي بحاجة لها. عدد السكان الضئيل ومئات السيارات الروسية الصنع لا توقفها سوى إشارات السير.
«ارتساخ» كما يسميها مواطنوها... دولة برئيس وحكومة وعلم ونشيد وجيش

في يوم مشمس بعد أيام من الثلج والمطر «اتفق» الاهالي على «يوم للغسيل». كل المدينة خلف الغسّالة، تمرّ الدعابة بين الزائرين. حبال الغسيل تمتد من مبنى إلى آخر، ومن شرفة إلى عمود كهرباء. خطوط زاهية من الألوان تضفي رونقاً على قوس قزح القوقاز الزاهي. بين فرح الطبيعة، ينمو مجتمع صغير لم يعرف سوى الحرب. حوالى 150 ألف نسمة يعيشون بين الجبال المحاصرة، على مساحة 11400 كيلومتر مربع جنوب شرق القوقاز.
في الاقليم توزع نظراتك بين السهول المغطاة بغابات البلوط وشجر النير والزان وعلى سفوح الجبال كثيرة القمم. في أودية الاقليم، كروم العنب جاهزة سنوياً لانتاج معدل ضخم من النبيذ والعرق، لكن «كل الناس محاربون هنا»، يقول وزير الدفاع موفسيس هاكوبيان. الجنرال لا يقدّم سوى احصاءات عن خروق «العدو» وعن أرقام «شهداء الجمهورية». عديد الجيش؟ «سر»... تسليحه وميزانيته؟ «سر». «لدينا ما يضمن أمننا»، يجزم.
المعنويات تبدو مرتفعة في الأرجاء. الناس لا يفكرون سوى في الدفاع عن وطنهم. في «ارتساخ»، عبارات مثل مقومات الصمود، وكل مواطن خفير، والعدو التركي/ الأذري منتشرة على الألسنة. منذ حوالى أسبوع جرى خرق واسع للهدنة التي أعلنت عام 1994. امتدت الاشتباكات لساعتين، ذهب ضحيتها 3 جنود أرمن من الاقليم وعدد أكبر من الآذريين.
في السنوات الثلاث الأخيرة عادت الحماوة إلى الجبهة على نحو غير مسبوق. وزارة الدفاع سجّلت 11205 خرقاً في بداية عام 2015 مقارنة بـ 4635 في الاشهر الثلاث الاولى من العام الماضي. هذا العام خسر «الاقليم» 10 جنود و70 جريحاً حتى اليوم (34 جنديا أذريا بحسب ارقام الارمن)، مقارنة بـ 17 خلال العام الماضي و11 عام 2013 و12 عام 2012. يفصّل وزير الدفاع الخروق بين عبور الحدود والغام ارضية وعمليات قنص وأعداد قذائف الهاون بالعيارات المختلفة. «لا مجازر بعد الآن»، يؤكد الضابط السوفياتي السابق. التوازنات الدولية التي تمنع حربا كبرى يفهمها جيداً الرجل الذي خدم في أفغانستان مع القوات السوفياتية. أذربيجان بمساحتها الجغرافية الكبيرة مقارنة بعدوتها (86600 كيلومتر مربع) وعدد سكانها الذي يفوق التسعة ملايين، لم تبلع الموسى بعد. تحاول ابقاء سخونة الجبهة على نحو شبه يومي في جبهة تمتدّ إلى 300 كيلومتر. الهدنة الهشة لا تحتمل الاتساع إلى حرب، في منطقة يمرّ بها النفط والغاز من بحر قزوين حتى أوكرانيا بوجود لاعبين كإيران وتركيا.
يبدو كأنّ القدر وضع باكو تحت الأمر الواقع «بانسلاخ» جزء من أراضيها، كما وضع أرمن كاراباخ أمام «دولة» لا يعترف بها أحد.

في حماية الـ «لادا»

لا يلغي الحقد الأرمني على الاتحاد السوفياتي أي شعور بوجودك في دولة «شرقية». السيارات السوفياتية والروسية «تستبيح» الطرقات. البزات والمعدات العسكرية كذلك. ذهبنا مع أحد ضباط الجيش في سيارة الـ«لادا» الشهيرة نحو القرى الحدودية. حوالى 40 دقيقة وضعتنا في «ماراغا». على طول الطريق البيوت مسوّاة بالارض. اليات عسكرية وسيارات مدنية محترقة ما زالت في مكانها. لا حركة هنا سوى لحفر الخنادق واقامة السواتر الترابية. عشرات العائلات صمدت في القرية التي شهدت عام 1992 هجوما للقوات الأذرية ادى إلى قتل العشرات وتهجير السكان قبل أن يستردّها المتطوعون من الاقليم والجيش الارمني.
يعيش الاهالي على تربية الماشية وزراعة العنب. بين بيوتهم الفقيرة لا دليل حياة سوى نباح كلاب الحراسة وخرير مياه النهر الدافق. المزارع ساروميان، الذي تطوّع خلال الحرب، يستقبلنا ببزّته العسكرية التي أضحت جزءاً من يومياته. يرفض ذكر «أيام سود» مرّت على ذاكرته. «لا اتذكّر سوى الانتصارات»، يقول. الرجل الذي عرفنا «أبناء عرب» سأل عن الاحوال في بيروت. أخبرناه عن سوريا. هزّ رأسه قائلاً: كلما سمعت عن ارمن سوريا اعتصر قلبي.

مفعول رجعي سوفياتي

في دير «غاندزاسار» يشرح الأب هوفانس مكرديتش عن موقع دير يوحنا المعمدان المبني في القرن الثالث عشر. المكان الشهير الواقع في مقاطعة مارتاكيرت لم يفتح أبوابه سوى بعد رحيل آخر جندي سوفياتي. «هذه المنطقة الوحيدة التي منع السوفيات فيها إقامة الشعائر الدينية وفتح الكنائس»، يروي الأب. الطفرة الدينية واضحة بين الناس، كأنها تعمل بمفعول رجعي عن سنين «ما قبل انهيار جدار برلين». من الساحة إلى الكنيسة يستعجل المؤمنون «التبارك» من الاب. تنحني الرؤوس أمام يديه مقابل سهول مزروعة بعشرات المقابر لمواطنين «قاتلوا لنعيش بحرية».
في شقيقة أرمينيا التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عام 1991، تمثل الدياسبورا الأرمنية رافداً مهماً للموارد المالية. فإذا كانت «الإبادة» تحتل ذاكرة وعاطفة أرمن العالم، فجمهورية «أرتساخ» هي عقلهم ومالهم.