باريس | شارك يوم الأحد الماضي ٤٩،٩٪ من الناخبين الفرنسيين في انتخابات الأقضية وكانت النتيجة بتحصين موقع حزب اليمين المتطرف «الجبهة الوطنية»، بحيث حصل بمفرده على ٢٥،٤٪ من الأصوات، بينما لم يتخط محصول جميع باقي الأحزاب اليمينية ٣٨،٥٪. أتى الحزب الاشتراكي الحاكم، وحلفاؤه، ثانياً، بـ٢٧٪. وعليه، للمرة الأولى أصبج حزب مارين لوبين يشكل خطراً حقيقياً وحتمياً على الحزبين الأساسيين اللذين يتسابقان ويتقاسمان الحكم في فرنسا منذ سنين.فقد أخرج اليسار من ٥٠٠ «كانتونا» (الخلية التي على أساسها يؤلف القضاء) أي ما يقارب ربع الأراضي الفرنسية، واختفى «الحزب الأخضر» بسبب استغلاله منذ سنوات من قبل الحزب الاشتراكي.

والغريب في الأمر، هو أن الحزب الاشتراكي قد خسر في مناطق يتولى الصدارة فيها منذ ١٩٩٨، بعدما دفع المرشحون المحليون ثمن سياسة حزبهم على الصعيد الوطني؛ ما يضع هذه الانتخابات بمثابة استطلاع أوّلي للانتخابات الرئاسية في ٢٠١٧.
والجدير بالذكر أن مارين لوبين أعلنت أول من أمس، نيتها الترشح في الانتخابات الرئاسية، ما دفع «الوحدة الديمقراطية المستقلة» (UDI) الى رفض عرض حليفه رئيس «الاتحاد من أجل حركة شعبية» (UMP)، نيكولا ساركوزي، بعدم التصويت لأي من مرشحي «الجبهة الوطنية» أو الأحزاب اليسارية، معتبرة أن أولويتها اليوم هي لقطع الطريق أمام اليمين المتطرف مهما كلف الأمر.
ماذا حصل؟ كيف توصل هذا الحزب المتطرّف الذي كان يخيف الفرنسيين لسنوات عديدة، الى كسب ثقة الناخبين، حتى في المناطق التي يكثر عدد مواطنيها من أصل عربي، أو مسلم؟
أولاً، يظهر أن شركات الإحصاءات واستطلاعات الرأي تجاهلت نية ما يقارب نصف الناخبين بالامتناع عن التصويت وأخطأت بتقدير قوة التحشيد لليمين المتطرف، حسب وسائل الإعلام الفرنسي.
ولكن هناك وجهة نظر خطيرة البوادر، لم يتناولها الإعلاميون والسياسيون الفرنسيون حتى الآن، وهي أن الأحزاب التقليدية نسيت الوقع النفسي لعملية الهجوم في كانون الثاني الماضي على صحيفة «شارلي ايبدو» على الناخبين. بينما بنى اليمين المتطرّف برنامجه الانتخابي على المسائل الأمنية، وذلك منذ نشأته. وما زاد من الشعور في الخوف لدى الشعب الفرنسي، هو موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي صرّح بأن يهود فرنسا لا يشعرون بالطمأنينة بعد الحادثة ودعاهم الى مغادرة فرنسا والذهاب الى بلاده حيث وعدهم باستقبال لائق ومستقبل زاهر…
من جهة أخرى، إن عدم تحقيق الوعود الانتخابية من قبل الرئاسة والحكومة، الحاليين والسابقين، قد دفع قسماً لا بأس به من الناخبين الى تجربة نهج جديد لحزب لم يخذل ناخبيه بعد بما أنه لم يتسلم السلطة حتى الآن! خاصة أن الوضع الاقتصادي الفرنسي ما زال يتردى دون أن يعيد الحكم الفرنسي النظر بسياسته الخارجية التي سببت تقلصاً ملموساً في الصادارات الفرنسية خلال الأعوام الأخيرة. فقد خسرت فرنسا أسواقاً عدة، بدءاً ببعض البلاد الأفريقية التي بدأت الصين والولايات المتحدة بكسبها، مروراً بالعراق ــ بعدما كانت المصدر الأجنبي الوحيد طوال عشرات السنين ــ ثم سوريا فليبيا، الخ.
فنرى أنّ المناطق التي تحولت من اليسار الى اليمين المتطرف، هي مناطق صناعية فقيرة، حيث البطالة مرتفعة وعدد المعامل فيها التي تقفل أو تصرف من عمالها لأسباب اقتصادية على ازدياد.
هل سيصحو اليسار الفرنسي وينجح بتحشيد صفوفه خلال الأيام الستة المقبلة (قبل الدورة الثانية)؟ هل سيستطيع الحزبان اليمينيان الأساسيان قطع الطريق على اليمين المتطرف؟
لا بوادر حتى الآن من ناحية اليسار، إذ لم يبد المسؤولون من جميع الأطراف عن قدرة حقيقية لتقييم ما حصل. لم يصدر حتى الآن أية إعادة حسابات أو محاولة اعتذار من قبل المسؤولين حيال الناخبين، لا بل سمعنا أحد الناطقين من الحزب الاشتراكي يتكلم عنهم بقساوة قائلاً: «أرادوا أن يعبّروا عن استيائهم وفعلوا ولكن آن الأوان لأن يستيقظوا ويرصوا الصفوف»، وكأن شيئاّ لم يكن…
أما من ناحية اليمين المعتدل، فحسابات الحزبين الأساسيين تختلف كلياً في ضوء المعركة الرئاسية في ٢٠١٧. فحزب الرئيس السابق ساركوزى يريد استجذاب أصوات اليمين المتطرف في الرئاسية مقابل مرشح اليسار، بينما يؤمن «الديموقراطي المستقل» بضرورة وحتمية قطع الطريق لليمين المتطرف، وإلا فسيصبح هو في الدرجة الرابعة بعد الأحزاب الثلاثة الأخرى، ما يخرجه من اللعبة.
فأحد الاستنتاجات المهمة من هذه الانتخابات هو أنه لم يعد السباق الانتخابي محصوراً بمتخاصمين اثنين كما هي الحال منذ عشرات السنين، بل أصبح ثلاثياً بوجود لاعب جديد ناشط جداً وعازم على الفوز؛ نفسه طويل، يلعب على تناقضات خصومه، ينتقدهم بسخرية في الإعلام منذ سنين دون أن يلقى مجابهة فعلية من قبل أي منهم…