مشاهدات من طهران... المدينة التي تعمل بصمت

مشاهدات من طهران... المدينة التي تعمل بصمت

  • 0
  • ض
  • ض

لطهران سحرها الخاص. سحر يدفعك إلى عقد العزم على العودة إليها وأنت تهم بالخروج منها. العودة لاكتشاف المزيد من ألغاز بلد يتفنّن أعداؤه في شيطنته. تطوي طهران في شوارعها الكثير، وتحمل بين حدائقها ومبانيها ومرافقها العامة... قصصاً عن الماضي والحاضر والمستقبل. من المؤكد أن أياماً لن تكفي لسبر أغوار مدينة ضاربة في تاريخ الحضارات، ولن تخوّل المتعطّش للتعرّف إلى أهلها أن يرسم الصورة كاملة. لهؤلاء طباع مختلفة، يجمعهم الاعتزار بأصالة ثقافتهم، وأيضاً تغطي طبيعتهم طبقات كثيرة من كبرياء وفرادة، كلّما أزلت واحدة ظهرت أخرى أمامك

المشهد الأول: يطوي المصعد الصاروخي طريقه نحو الطوابق العليا من برج (ناطحة سحاب) ميلاد. هو أحد المعالم الأبرز في العاصمة الإيرانية. تسترق إحدى السيدات السمع إلى حديثنا الجانبي لتلاحظ لكنتنا اللبنانية، فلا تتردد في "الدخول على الخط" لتلقي التحية وتستفسر عن أسباب وجودنا في طهران. عندما يأتيها الجواب أننا في مهمة صحافية، تبدو كمن عثرت على فرصتها الضائعة: تصرّ على التشديد على أنها "لبنانية مسيحية... وجيت لإيران سياحة حتى شوفها واكتشفها عن قرب". تمضي في الشرح بحماسة كيف أن مشاهداتها في الجمهورية الإسلامية بدّدت قوالب مسبقة كانت مزروعة في ذهنها بفعل الضخ الإعلامي المعادي لإيران، وكيف أنها فوجئت إيجاباً بالتطور والنظافة والجمالية والنظام العام في البلد. تسترسل في عرض انطباعاتها الحميدة عن بلاد فارس، قبل أن تختم الحديث بالتأكيد أنها ستعاود زيارة البلد مرة ثانية وثالثة لتستزيد من ثروته الحضارية. المشهد الثاني: يمازح زميلٌ إحدى البائعات في محل لبيع التحف في شارع من شوارع طهران. يلتقط مجسماً صغيراً معروضاً عند الطاولة المحاذية للصندوق ويقدمه للشابة العشرينية مخاطباً إياها بإنكليزية مكسرة: "قدميها هدية باسمي للـboyfriend خاصتك. لديك واحد... أم لا؟". تضحك الفتاة الجميلة بخجل وتجيب بالإيجاب، ثم ترجع خطوة إلى الخلف وهي مستمرة في الضحك وتتمتم بكلمات بالفارسية مع صاحباتها. نسأل المترجم المرافق ماذا قالت؟ يجيب: "قالت لهن ليس لديها boyfriend لكنها أجابتكم بأن لديها حبيباً، كي تأخذوا انطباعاً بأن الإيرانيات منفتحات". المشهد الثالث: في ختام لقاء إحدى الشخصيات السياسية الإيرانية الرفيعة المستوى، نخرج من المبنى الرسمي، نجد سيارة إيرانية الصنع مركونة في حالة انتظار إلى جانب سيارتنا. نسأل عن شأن هذه السيارة، فيقال لنا إنها للشخصية التي كنا في ضيافتها. نستغرب المفارقة بين تواضع السيارة والمستوى الرسمي للمسؤول، فيتضح لنا أن ثمة عرفاً ملزماً في إيران يقضي بأن يركب كل المسؤولين الإيرانيين، مهما علا شأن مسؤولياتهم، سياراتٍ من إنتاج وطني، فيما تخصص السيارات الفارهة من الإنتاج الأجنبي للزوار الأجانب من شخصيات ومسؤولين. حياة الليل تكاد تكون معدومة في طهران... ليس لأن الإيرانيين شعب "لا يحب الحياة"، بل لأنهم يفضّلون النوم باكراً ليربحوا كل ساعات نهارهم الذي يبدأ مع الفجر وينتهي قبل ساعات الليل المتأخرة. نهار تقتطع فيه زحمة الشوارع حصة وازنة من وقت الطهرانيين، في واحدة من أكثر المدن كثافة سكانية في العالم. هذه الأيام، يضطر سكان العاصمة الإيرانية إلى التكيّف مع جرعة إضافية من الزحمة يتسبب فيها تسونامي الوفود الاقتصادية الأجنبية الذي يجتاح البلاد منذ الإعلان عن الاتفاق النووي. أبلغ آثار هذا التسونامي هو إقفال فنادق طهران على غرفها المشغولة جميعاً، إلى حدّ عودة جهات نافذة بخفّي حنين من محاولة التوسط لإيجاد غرف بديلة من غرفنا غير المريحة في فندق من الدرجة الثانية شرقي المدينة.

لا يخفي الطهرانيون نزوعهم إلى نمط الحياة الغربي لكنهم بالقدر نفسه يبالغون في الاعتزاز بأصالة ثقافتهم
لا يخفي الطهرانيون نزوعهم إلى نمط الحياة الغربي، لكنهم بالقدر نفسه يبالغون في الاعتزاز بأصالة ثقافتهم، والأهم، بالحداثة التي تراها في كل ما تقع عليه عيناك وسط الحيز العام. لا يجادل أحد من زوار طهران بأنها تضاهي أعرق المدن الأوروبية في نظافتها وعمرانيّتها ونظامها العام وإفادتها من كل مقومات التطور التقني في كل ذلك. بيد أن ما يخفى على كثيرين أن التطور والحداثة اللذين يرونهما في العاصمة الإيرانية هما، في الجزء الأكبر، صناعة إيرانية بامتياز. العمارة الحديثة، الجسور الضخمة، السدود المحيطة بطهران، المتنزهات الآخاذة في جمالها، المترو على عمق 60 متراً تحت الأرض، نظام السير الدقيق المرتبط بغرفة تحكم مركزية تحاكي نظيرتها اللندنية على صعيد التشغيل التقني، أنظمة البطاقات الذكية التي تعترضك أينما تكون، الكهرباء والماء والغاز، المتوافرة على مدار الساعة وفي كل منزل، وغير ذلك ممّا حولت إيران فيه تهديدات الحصار المفروض عليها إلى فرصٍ متنوعة طورت خلالها نسختها الخاصة من الحداثة العمرانية والتقنية بعيداً عن الارتهان لأعدائها. من لم يقرأ عن الحياة في طهران سوى القليل، وسمع عنها الكثير من زائر سابق، ثم يجد نفسه فجأة في حضرتها، سيرى أمامه حكاية تروي كيف أنه في الوقت الذي كان الغرب يقولب الأفكار عن إيران، ويسلّط السيف على رقاب من لا ينظرون إلى هذه الدولة وفق كتيّب معاييره المغرضة، كانت هي تعمل بصمت وتبني نموذجها الخاص الذي يضعها في مصاف أهم الدول حضارة وحداثة. ومن عاصر عقداً من الزمن تمحور فيه الحديث عن إيران حول كلمتي "عقوبات" و"حصار"، وقبل ذلك وبعده حينما يتم تقديم النظام الإسلامي فيها بوصفه قريناً للتخلف والظلامية والإرهاب والقهر، لا بد له أن يستحضر هذا المخزون في خلفية مشاهداته للبلاد. بيد أن المؤكد أن هذا الاستحضار لن يدوم طويلاً وسيبدأ بالاهتزاز فور الخروج من مطار الإمام الخميني الدولي، ليتقوّض تماماً عند أول جولة في شوارع طهران المليئة بالحياة والنظافة والنظام. آنذاك ستنهار منظومة العقوبات والحصار في ذهن الزائر ووجدانه، وسيكشتف كم أن مخيلته، صنيعة الإعلام المعادي، عن الجمهورية الإسلامية مجافية للواقع. هنا كل شي موجود. التقدم يطغى على كل شيء، ولكن الزخرفة التي تتميّز بها معظم الأماكن العامة أو بهو الفندق وداخل بعض المحال التجارية والمطاعم، تعيدك إلى انشداد الإيرانيين لحضارتهم بحقبتيها الفارسية والإسلامية. الناس ليسوا على رأي واحد. تلتقي حكماً بمن لا يحبّذ سياسة حكومته الخارجية أو الداخلية، وقد يحالفك الحظ، رغم عائق عدم إتقان اللغة الفارسية، في أن تتمكن من مناقشة آخرين بشأن بعض القضايا الاجتماعية. معظمهم منفتح على مناقشتك، ولكن بحذر. فوفق ما يوضح أحد العارفين بنمط تفكير الناس في طهران، يُعدّ التناقض الذي يتمتع به الإيرانيون ميزة في الوقت ذاته، وهو ما لا يمكن فهمه من الزيارة الأولى ولا حتى الثانية. طباع الناس في طهران، كما في كل إيران، تغلّفها طبقات، ما إن تزيح واحدة حتى تظهر أخرى، والكبرياء الذي يطغى على سلوكهم، يفعل فعله في عدم تمكين الآخر من تشريح داخليتهم بسهولة. الأبنية هنا لها طابع خاص. هي خالية من الشرفات لضيق مساحتها، ولكن الطهرانيين استعاضوا عنها بالخروج للترفيه عن أنفسهم في الحدائق العامة المتوافرة في كل حي من أحياء المدينة. في تلك الحدائق، التي تشكل بحق لوحات فنية بديعة الإتقان، ستجد ليس فقط متنفساً أخضر، من الأجواء التي تخنقها الزحمة والتلوث البيئي. ستجد في كل منها آلات مثبتة لممارسة التمرينات الرياضية على اختلاف أنواعها، هي أشبه بصالات جمنازيوم في الهواء الطلق. هنا ستشاهد النساء الإيرانيات، بأثوابهن التي تفرض حداً أدنى من الحشمة، كيف يحرصن للحفاظ على لياقتهن من دون تكلف أو تصنّع. وعلى سيرة المرأة في إيران، أنت تراها في كل مكان، في الطائرة وبهو الفندق والمحال التجارية والمصارف والمطاعم والمؤسسات الخاصة والعامة. في تنقلاتها تقود سيارتها الخاصة أو ترتاد وسائل النقل العام التي تخصص لها عرباتٍ منفصلة تماماً. كذلك لها نواديها المغلقة لممارسة كل أنواع الترفيه. لكن الأهم أنك عندما تراها ــ أو تحادثها ــ لن تحتاج إلى وقت طويل لتستنتج جرأتها الاستثنائية في تكريس حقوقها، وربما ــ كما يقول بعض الرجال هناك ممازحين ــ ممارسة سطوتها على حقوق الرجل. كل ما تعيشه في طهران يحدثك بأن هذه المدينة صمدت أمام تجربة الماضي القريب، وثبّتت قدميها في الحاضر بعيداً عن نظرات الناس، وها هي الآن تنطلق نحو المستقبل على مرأى من الجميع. لن يستطيع أحد أن يبطئ زخم الانطلاقة. فالحذر الذي يتعاطى من خلاله الطهرانيون مع زائريهم، إشارة إلى أنهم مدركون ما هم مقبلون عليه. يحاولون أن يشعروا القادم من الخارج بالراحة، ولكن كلامهم القليل وبرودة التعاطي مع الزائر، في أحيان كثيرة، أكبر دليل على أن أحداً لن يستطيع أن يأخذ منهم ما لا يريدون إعطاءه. ومن كل ذلك، يخرج الزائر بنتيجة واحدة: هم يلعبون في ملعبهم، وأنت مجرد متطفّل حالياً. إيران اليوم في طور الخروج من حصار. بعد أشهر عديدة، أي عند بدء تنفيذ الاتفاق النووي ورفع العقوبات واستقرار الشركات الغربية على أراضيها، قد يلتقي السائر في شوارعها بجنسيات أوروبية مختلفة. في حينه، سيُكتب الكثير عن هذه المدينة من وجهة نظر غربية وأجنبية، وستكون هذه الكتابات مختلفة من دون شك. من سيقصدها من أجل العمل أو للسياحة، سينقل ما يشاهد من خارج الأجندات المرسومة سلفاً والقوالب المصنعة في مطابخ الإعلام المأجور.

0 تعليق

التعليقات