تشهد تركيا استحقاقات داخلية تثير تساؤلات عن قوة حزب «العدالة والتنمية» وتماسكه. اجتاز الحزب الحاكم العام الماضي الانتخابات المحلية ثم الرئاسية بنجاح، برغم فضيحة الفساد التي حوّلها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى مؤامرة شخصية عليه وعلى عائلته، ثم استفاد منها على مرحلتين.المرحلة الأولى تمثّلت بتخلّصه من حليف الأمس، الداعية فتح الله غولن. أما الثانية، فانعكست في «انتصاره»، حين تبوأ سدة الرئاسة عبر الاقتراع المباشر للمرة الأولى في تاريخ تركيا.

واليوم يتطلّع أردوغان إلى الاستحقاق البرلماني في حزيران المقبل، حيث ينوي فوز حزبه بغالبية المقاعد في المجلس النيابي (400 من أصل 550 مقعداً)، حيث سيتمكّن «العدالة والتنمية» من تعديل دستور البلاد من دون الحاجة إلى الاستفتاء، حتى يعبر بالجمهورية إلى النظام الرئاسي.
ولعلّ من نافل القول أن التغيير المرتقب للدستور، يندرج ضمن طموحات الرجل ليكون حاكماً مطلقاً، إذ إن الدستور الحالي لا يعطيه الصلاحيات التي يمكنها أن تحوّله إلى «سلطان». غير أن هذا الطموح بات من الواضح أنه يواجه واقعاً غير مناسب تماماً، حيث بدأت المعارك داخل الحزب الحاكم، تستعر، وهي لن تتوقف في وقتٍ قريب، إذ بدأت إرهاصاتها بالظهور منذ إعلان أردوغان ترؤسه اجتماعات الحكومة، في مشهدٍ لم تعهده البلاد مع رؤساء سابقين إلا في حالاتٍ طارئة.
بدّد أردوغان أوهام أحمد داوود أوغلو بممارسة صلاحياته كرئيس وزراء بعد جلسة مجلس الوزراء التي ترأسها للمرة الثانية في 9 آذار الجاري، والتي أعقبتها عودة حقان فيدان عن استقالته من منصبه في رئاسة الاستخبارات الوطنية، بعدما سحب ترشّحه للبرلمان من قائمة حزب «العدالة والتنمية»، الأمر الذي أكد وجود تباين بين رغبات أردوغان وتطلعات داوود أوغلو الذي شجع فيدان على خطوة الاستقالة من أجل ممارسة العمل السياسي كنائب أولاً ثم كوزير للخارجية في حكومة مقبلة، بعدما صرّح بأنه «بحاجة إلى فيدان في السياسة». هذه المسألة جعلت بعض المحللين يرون أن داوود أوغلو بدأ باستخدام سلطته كرئيسٍ للحكومة، فيما رأى آخرون أن الأمر «منسّق بينه وبين أردوغان»، إلا أن انتقاد أردوغان لاستقالة فيدان وقرار داوود أوغلو في اليوم التالي، بددا هذا الاعتقاد.
وبعد لقائه بأردوغان أثناء أدائهما مراسم العمرة، تراجع فيدان عن استقالته ونيته في الترشح إلى الانتخابات النيابية، عائداً إلى رئاسة الاستخبارات الوطنية، قبل أن يؤكدا قرار فيدان في اجتماعٍ عقد في أنقرة. وكان من الواضح أنه في حال انتخاب فيدان وترشّحه لمنصب وزاري، أن أردوغان سيرفض، ما سيزيد من حدة التنافر في صفوف الحزب الواحد.
التساؤلات خلف رفض أردوغان استقالة فيدان كثيرة. وقد رأى بعض المحللين أن القضية الكردية هي الدافع الرئيس وراء إصرار الرئيس على موقفه. إذ إن أردوغان تأكد أن حزب «الشعوب الديموقراطي» قادرٌ على تجاوز عتبة الـ 10% من أصوات الناخبين في الانتخابات المقبلة، ما قد يقلب الموازين بسبب تغيير توزيع المقاعد، الأمر الذي قد يقضي على طموحات أردوغان في بلوغ حزبه 400 مقعد في البرلمان. في هذا السياق، يكمن دور فيدان في إقناع زعيم حزب «العمال الكردستاني»، عبدالله أوجلان، بدفع الأكراد إلى التصويت لتعديل الدستور من دون المساس بالاتفاقيات المعقودة سابقاً، سعياً إلى التوصل لتسوية سياسية للمشكلة الكردية.
غير أن ما جرى في مسألة فيدان، يمثل إهانة لداوود أوغلو، ولا سيما بعد تلويح أردوغان بإمكانية عودة الرئيس السابق عبدالله غول إلى النشاط السياسي. لكن الأخير كان قد أكد سابقاً أنه لا يوافق على نظامٍ رئاسي من دون فصلٍ للسلطات، ما أوحى بأنه لا اتفاق بعد بين أركان «العدالة والتنمية» على مضمون التعديلات الدستورية في النظام الرئيسي المزمع اعتماده.