185 عاماً مرّت على استقلال اليونان عن السلطنة العثمانية بعد حرب استمرت أكثر من عقد. صحيح أن ثوار أثينا استعانوا بدعم روسيا القيصرية وبلدان أوروبا القوية للانعتاق من سلطة الباب العالي، إلا أن ثورتهم تبقى نتاجاً محلياً ممتازاً في بلد يُصنّف مهد الحضارة الغربية.اليوم يخوض ثوّار اليونان الجدد معركة تحرّر مختلفة. هذه المرّة من سلطة رأس المال الذي جرّد البلاد من أسسها الديموقراطية وقدرتها على المناورة لتحقيق رفاه شعبها وربما الاستثمار في أزمتها الاقتصادية والمالية للخروج بمشروع جديد لأجيالها المقبلة.

مع وصول حزب «سيريزا» اليساري إلى الحكم في اليونان في انتخابات حاسمة للبلد المتوسطي وللقارة بأجمعها، انهمرت الأسئلة حول أفق الجمهورية الهيلينية في مفاوضاتها مع السلطة الأوروبية المركزية في بروكسل ـ والتي تمثل مصالح القوى النافذة في مجموعة اليورو وفي النظام المالي العالمي.
التفاوض كان ضرورياً لكلا الطرفين، مع العلم بأن قائد الثورة الجديدة، ألكسيس تسيبراس، الذي أضحى رئيساً للحكومة، ومعه فريق اقتصادي مالي من كافة المشارب والخلفيات، تجنّب ذكر الانسحاب من الوحدة النقدية كتكتيك سياسي أو حتى خيار على طاولة المفاوضات. التفاوض ضروري لأن اليونان تعاني من دين عام يساوي 175% من الناتج المحلي الإجمالي (للمقارنة، المعدل في لبنان ذات المديونية العالية الشهيرة هو دون 150% حالياً)، ومعدّل البطالة هو 25%، أي إن ربع اليد العاملة لا تُنتج.
مصير اليونان وتجربة اليسار فيه يرتبطان بنجاح الإصلاحات الجريئة، أما أوروبا فإن تحدياتها أكبر بكثير
لذا فإن السياسات التي يطرحها الحزب الجديد يجب أن تكون واقعية لمعالجة الأزمة القائمة من دون خلق دوامة جديدة تزيد من معاناة الشعب، مع العلم بأنه منذ كانون الأول الماضي، وفي ظلّ التحولات السياسية، نزفت مصارف البلاد أكثر من 20 مليار يورو عبارة عن رساميل هاربة، وذلك بالتزامن مع تراجع الحركة الاقتصادية والإيرادات الضريبية.
من جهتها، لا تتحمّل بروكسل ـ بكل ما تمثله من مصالح أوروبية ثقيلة يهمها استقرار القارة ووحدتها النقدية ـ المراهنة على مستقبلها. فكان أن ابتكرت معادلة تمديد مهلة تطبيق الإصلاحات اليونانية لفترة 4 أشهر، وإقرارها بإجماع قياسي في البرلمان الألماني.
أثبت هذا الإخراج أن خيارات اليسار ليست فوضوية، وأن فرضها على مراكز القرار ممكن في كلّ مكان. وتحوّلت القضية إلى مثال لأوروبا بأجمعها: اليوم، يُشدد ألكسيس تسيبراس على أن المسؤولين في الحكومة الإسبانية يقزّمون إنجازاته خوفاً من تأثير اليسار اليوناني على رديفه الإسباني، «باداموس».
وفقاً لأستاذ الاقتصاد في جامعة أوستن في ولاية تكساس، جايمس غالبرايث، فإن تعبير «انتصار» اليونان على بروكسل قد يكون قوياً، غير أن ما حصل «يُعدّ انتصاراً في المناوشة» التي دارت بينهما.
ويقول غالبرايث ـ الذي تنقّل أخيراً بين بروكسل وأثنيا لمساندة الفريق اليوناني في مفاوضاته الأوروبية الشاقة ـ في حديث إلى مجلة «نيويوركر»، إن «هذا (الانتصار) أمّن لليونان بعض الوقت للمناورة؛ ليس كثيراً ولكن أكثر مما كان متاحاً لها سابقاً».
جاءت هذه التحوّلات الكبيرة على المستوى السياسي الاجتماعي في اليونان وفي علاقة هذا البلد مع السلطة الأوروبية المركزية، في وقت تعيش فيه أوروبا إحدى أصعب مراحلها التاريخية.
بحسب الاقتصادي الشهير نورييل روبيني، فإن «منطقة اليورو صمدت حتى اليوم بسبب تدخلات ظرفية وإجراءات طارئة، ولكن مجموعة المشاكل التي تعاني منها مع بداية عام 2015، لا يُمكن أبداً معالجتها بالإجراءات المؤقتة».
وفي مطالعة غنية عن أفق الاتحاد الأوروبي نشرها بداية العام، يتحدث روبيني عن 9 تحديات أساسية تمثل أمام القارة العجوز خلال العقود المقبلة: صعود الأحزاب المتطرفة؛ ارتفاع متوسط أعمار الشعوب الأوروبية ومعها كلفة الشيخوخة؛ الهشاشة في مواجهة الصدمات الخارجية؛ ضعف دينامية تنقل الرساميل والقوى العاملة بين بلدان الاتحاد؛ التفاوت الهيكلي الكبير بين الدائنين والمدينين في الاتحاد النقدي؛ عدم تحول منطقة اليورو إلى وحدة مالية/ ضريبية ما يضيق هوامش المناورة في الأوقات الاقتصادية الصعبة؛ محدودية صوغ السياسات الاقتصادية في أوقات الركود؛ الاتحاد النقدي ليس وحدة مصرفية؛ وأخيراً، هو ليس وحدةً سياسية قائمة.
«إذا أرادت أوروبا أن تتجنّب التحوّل إلى فلوريدا العالم ـ أي إلى شبه جزيرة مليئة بالسياح والمتقاعدين ـ عليها أن تطبق إجراءات جذرية عاجلة، أي اعتماد سياسات تعالج النقاط التسع المذكورة». هكذا يختم روبيني تحليله الذي يخلص إلى أن تراجع الإنتاجية في أوروبا وعدم معالجة مواطن الضعف الاقتصادي فيها، سيقضيان على معظم ميزاتها التنافسية ليبقى فقط إرثها الثقافي الذي يجعلها وجهة سياحية للطبقة الوسطى الصينية.
الانتصار النسبي لليونان على أوروبا الضعيفة ليس سوى بداية المشوار، إذ عليه أن يخطّ برنامجاً إصلاحياً يُحصّن البلاد ليس فقط من سطوة مؤسسات النظام المالي، ولكن من مشاكلها الداخلية نفسها، ومنها ضعف الإنتاجية والفساد المؤسساتي. ومن بين آخر الطروحات التي تقدّمت بها حكومة ألكسيس تسيبراس إجراءات لتحفيز الإبلاغ عن التهرب الضريبي عبر تجنيد المواطنين والسياح تحديداً للإبلاغ عن الممارسات غير القانونية، أي تحويل هؤلاء إلى جواسيس يساهمون في تحصيل الدولة حقوقها المالية من النشاطات الاقتصادية التي ترعاها.
تتخذ الحكومة خيارات كهذه لأن خزنتها تجف من السيولة؛ فهي تحتاج إلى 7 مليارات يورو قبل نهاية آذار الحالي لتسيير شؤونها المالية، وتدخل في دوامة مناوشات جديدة مع المركزي الأوروبي ومع بروكسل حول آليات التمويل السريع.
وفي الأساس، لا تزال المفاوضات حول برنامج التقشف وإجراءات الإصلاح المالي في بداياتها. اليوم يطرح الائتلاف الحاكم في اليونان إجراء استفتاء شعبي حول الخيارات الوطنية في حال رفضت أوروبا الخطة الإصلاحية التي تطرحها الحكومة.
بالتالي، فإن التهديد بخروج اليونان من الوحدة النقدية ـ أو ما اصطلح انكليزياً على تسميته Grexit ـ لا يزال قائماً. لا شيء إذاً يمنع من إعادة طرح العودة إلى الدراخما (العملة الوطنية قبل اليورو) في حال تعثرت المفاوضات مع بروكسل ومع الدائنين الدوليين، وأبرزهم صندوق النقد الدولي.
عشية نجاح اليسار اليوناني في الانتخابات الأخيرة مع وصول حزب «سيريزا» إلى السلطة، حذّر الرئيس السابق للاحتياطي الفدرالي الأميركي، آلان غرينسبان، من أن تخلي أوروبا عن اليورو سيؤدي إلى انهيار الوحدة النقدية برمتها. فسيناريو كهذا يعني أن المصرف المركزي الأوروبي الذي يسهر على صحة اليورو سيستفيق بعد ليلة الخروج اليوناني العظيم، وعلى كاهله دين جديد بمئات مليارات اليورو.
هناك من ينظر إلى الوضع من منظور آخر، إذ يرى البعض أن المركزي الأوروبي قادرٌ على الصمود مع الحمل اليوناني الثقيل، وأن اليونان قادرة بدورها على الانتعاش نسبياً لأن عملتها الخاصة تخوّلها اللعب على سعر الصرف لجعل صادراتها أرخص في الأسواق الخارجية، وبالتالي مصدراً إضافياً للعملات الصعبة الضرورية لبلد يعاني الأمرّين في تأمين دفعات الديون الخارجية.
أكثر من ذلك، تؤكد صحيفة «وول ستريت جورنال» في تحليل طويل نشرته أخيراً، أن منطقة اليورو تشهد حالياً انتعاشاً نسبياً مع عودة اندفاعة النمو إلى ألمانيا وتحقيق البلدان التي كانت متأزمة ـ وهي إسبانيا، إيرلندا والبرتغال ـ نتائج جيدة. وتنقل عن المفوضية الأوروبية أنه للمرّة الأولى منذ عام 2007، ستحقق منطقة اليورو معدل نمو إيجابي هذا العام.
تشدد الصحيفة على أن انتعاش أوروبا الاقتصادي يُقلّص من هامش المناورة الذي تتمتع به اليونان، على اعتبار أن أوروبا القوية لن تتأثر بالقدر نفسه بانسحاب اليونان من الوحدة النقدية.
ولكن في جميع الأحوال فإن المراحل المقبلة، في حال اتخذت المنحى الدراماتيكي، لن تكون سهلة على الطرفين. فمصير اليونان وتجربة اليسار فيه، يرتبطان بنجاح الإصلاحات الجريئة (أقلها طبعاً هو الاعتماد على تقارير السياح لمواجهة الفساد والترهّل الإداري). أما أوروبا، التي أظهرت أزمتها الأخيرة مستوى عجزها وعَجَزِها، فإن تحدياتها أعظم، وهي أكبر مما يُمكن أن يُطرح في أسوأ الحالات على أجندة الحكم في اليونان.