اسطنبول | في آب 1920، وقعت الدول الاستعمارية، فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة بصورةٍ غير مباشرة، اتفاقية سيفر التي كانت تتضمّن «دولة كردية» في الشرق الأوسط. حينها لم تكن حدود المنطقة واضحة الملامح، بسبب استمرار حرب الاستقلال التركية التي انتهت بقيام الجمهورية التركية بحدودها الحالية، باستثناء لواء اسكندرون، التي اعطتها فرنسا لتركيا بين عامي 1938 و1939.
ثم جاءت اتفاقية لوزان عام 1932 التي اعترفت بالجمهورية التركية لتنهي آنذاك أحلام الأكراد بقيام دولتهم المستقلة التي رفضتها تركيا، فيما كان السوريون والعراقيون لا يزالون تحت وطأة الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، اللذين قررا مصيرهما لسنوات طويلة حتى الاستقلال. واستغلت الدول الاستعمارية الرفض التركي، لترجّح اليهود على الأكراد، إذ تركز الاهتمام البريطاني على اليهود انطلاقاً من وعد بلفور الذي يعني صراعاً ثنائياً بين العرب واليهود مع انشغال المنطقة بحروب العرب والفرس والاتراك مع الأكراد.
ينتظر أردوغان أن ينتج من معركة الموصل «كيان سني»

ورجح الغرب آنذاك قيام الدولة اليهودية على الدولة الكردية ذات الحسابات المعقدة، بسبب أطرافها المتعددة اقليمياً ودولياً. ثم شهدت المنطقة تطورات، وخصوصاً مع ما يُسمّى الربيع العربي لتتيح الفرصة للدول الاستعمارية حتى تستذكر اتفاقية سيفر التي تشجَّع لها الأكراد من جديد. وكان الاحتلال الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣، وقبله حرب الخليج الاولى عام ١٩٩١، ما أعطى المزيد من «الأمل» للأكراد.
آنذاك، أعلنت واشنطن ومعها بريطانيا وفرنسا، شمال خط العرض ٣٦، منطقة حظر جوي لحماية الأكراد من أي عمل عسكري عراقي. ما ساهم في قيام الكيان الفدرالي الكردي في العراق، الذي ساهمت فيه أنقرة عندما استضافت لمدة ١٢ سنة، ما يسمى «قوات المطرقة» الأميركية والبريطانية والفرنسية، لحماية الأكراد من أي عمل عسكري عراقي محتمل، كما أدى الاحتلال الاميركي للعراق دوراً أساسياً في ترسيخ هذا الكيان عبر الدستور الذي صاغه بول بريمر كتابةً وطبقه عملياً. وأدت أنقرة طيلة الفترة الماضية دوراً أساسياً ومهماً في دعم هذا الكيان بتقديم كل أنواع المساعدة لرئيس اقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني الذي تحوّل إلى حليف استراتيجي لأنقرة وخصوصاً بعد الأحداث الأخيرة في سوريا والعراق. وعقد الثنائي أردوغان ـ داوود أوغلو آمالاً كبيرة على هذا التحالف، وأرادا له تحقيق مجمل مشاريع أنقرة ومخططاتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، في ظلّ استمرار الحديث غربياً عن سيناريوهات جديدة حول مستقبل سوريا والعراق، الجارتين الجنوبيتين لتركيا.
أما في المرحلة الأخيرة، فيأتي استقبال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، الشهر الماضي، لقيادات حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري في قصر الاليزيه، إضافة إلى تصريحات المسؤولين الأميركيين، في ما يتعلق بالمساعدات العسكرية الأميركية للحزب المذكور الذي يقاتل تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) ليزيد من اهتمام أنقرة بالورقة الكردية داخلياً وإقليمياً. هذه التطورات يفسرها الاتفاق المبدئي بين الحكومة التركية وحزب «العمال الكردستاني»، المتعلّق بوقف الحرب بين الطرفين، وهو ما عدّه الطرف التركي إلقاء السلاح من الجانب الكردي.
ومن دون أن يتحدث أحد عن الاعداد المتزايدة من مقاتلي «الاتحاد الديموقراطي» السوري، (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي) الذي سيلقي السلاح في تركيا، فيما يزداد قوة في سوريا بفضل الدعم الأميركي والأوروبي المعلن رسمياً، وبواسطة تركيا أيضاً.
هذه الوقائع زادت من الاهتمام التركي بهذا الملف، بالتزامن مع معلوماتٍ تتحدّث عن دعم غربي لمساعي أكراد سوريا إلى إعلان الحكم الذاتي في مناطقهم بعد تهجير العشائر العربية منها بحجة أنها كانت تتضامن مع «داعش». وتتحدث المعلومات عن احتمالات أن يتحوّل الحكم الذاتي إلى كيان فدرالي سيفرضه الغرب على طاولة الحل السياسي للأزمة السورية، كما جرى بالنسبة إلى شمال العراق.
في وقتٍ تضع فيه أنقرة حسابات جدية للاحتمالات المذكورة، وتلك التي قد تتبلور بعد معركة الموصل، ينتظر أردوغان وحلفاؤه في قطر والسعودية أن ينتج عن تلك المعركة «كيان سني» قريب منها. فتركيا غير قادرة على نزع الموصل من ذاكرتها، حيث قال داوود أوغلو الأسبوع الماضي إنها قضية تاريخية واستراتيجية بالنسبة إلى تركيا التي تخلّت عن الموصل للعراق بالاتفاقية التي وقعتها مع بريطانيا عام ١٩٢٥.
وإذا تحققت الأحلام والحسابات التركية في الموصل ونجحت مخططاتها في الاتفاق مع زعيم «العمال الكردستاني»، عبدالله أوجلان، بإمكاناته التركية والسورية، حينها سيفتح التحالف الأردوغاني مع واشنطن والعواصم الغربية آفاقاً جديدة أمام الحسابات التركية الاستراتيجية لإحكام سيطرتها على البترول والغاز الطبيعي الموجود في المناطق الكردية في سوريا والعراق، وعبر التحالف مع الكيانات الكردية السورية والعراقية والسنية. حينها ستبدأ الخطوة التالية في الحسابات التركية الخاصة بنقل بترول وغاز الكويت وقطر والسعودية والعراق إلى تركيا عبر العراق وشرق سوريا، وإلى ميناء جيهان التركي الذي يصله الآن أساساً البترول العراقي والكردي، بواسطة أنبوب كركوك - جيهان، في وقتٍ يصل فيه البترول والغاز الأذربيحاني والكازاخستاتي إلى تركيا، التي تخطط لنقل الغاز الإسرائيلي ومستقبلاً القبرصي إلى موانئها ومنها إلى أوروبا بهدف كسر الاحتكار الروسي هناك.
في ظلّ هذه المعطيات، يبقى الرهان على نتائج المساعي التي يبذلها الملك السعودي لتحقيق المصالحة بين أردوغان والسيسي، وفي إقناع واشنطن بالابتعاد عن اي اتفاق مع إيران. وإذا نجح سلمان ومعه رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو في موضوع إيران، فإن المنطقة من دون شك ستدخل في دوامة جديدة من الأحداث الخطيرة التي تستعد لها أنقرة وربما تحبّذها لتحقيق أهدافها، مهما كان الثمن غالياً، طالما أن من سيدفع الثمن هو أطراف أخرى. وقد أخذت أنقرة احتياطاتها لكل الاحتمالات، وفي مقدمتها الحسابات الغربية التي تسترجع ذكريات الماضي، لتحول مثلث المعادلة الإقليمية التركية والعربية والفارسية القائم حالياً، إلى مربع ينضم إليه الأكراد. من دون إغفال أهمية عنصر الأكراد في ملف النفط، الذي يعني الغرب بالدرجة الأولى وبدرجة موازية لأهمية تركيا، التي تريد للمربع الجديد أن يكون مستطيلاً بذراعين طويلتين للاتراك والأكراد مقابل ذراع قصيرة للفرس وأخرى للعرب.