ترتكز قولبة الانتصارات، عادة، على منصّات لا يرفعها فراغ، بل أسس واضحة ومتينة. في حالة المفاوضات الإيرانية - الأميركية، يُعد الاحتكام إلى هذه الأسس بمعزل عن وضوحها ومتانتها، خطوة ناقصة، خصوصاً أن ما يرشح عن مسارها حتى الآن يتّسم بالغموض والقلّة، نسبة إلى ما يدور حولها من فرضيات وتأويلات قد تلهب المشاعر أحياناً وتحبط المعنويات أحياناً أخرى.
في خطابه عن حال الاتحاد الذي ألقاه في مبنى الكابتول، منذ نحو أسبوعين، مرّر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، رسالة إلى الكونغرس مفادها أن «ابقوا بعيدين عن طريقي!». هدّد باستخدام الفيتو إذا فرض المشرّعون عقوبات جديدة على إيران، مدفوعاً بحماسة ومعرفة جيدة أن باستطاعته تحقيق انتصار رئاسي بالوسائل المتاحة حالياً. فبلاده تعيش في جو سياسي يرجّح كفّة الدبلوماسية على العقوبات، وليس من الغريب انطلاقاً من هذه الفكرة أن يستغل وضعاً لم يكن متوافراً قبل أقل من عامين، حين عَلَت كفة العقوبات على الدبلوماسية.
نظام العقوبات المتبع على طهران معقد للغاية، وقد أنشئ منذ عقود ليتضمن شبكة من الأوضاع المتشابكة

يبرع الرئيس الأميركي في التهديد والوعيد تماماً كما يفقه فن الدبلوماسية، ولكن ذلك لم يمنع المؤسسة التشريعية من السعي إلى إقرار عقوبات جديدة، ولو مؤجلة، بل أسهم أيضاً في إدخال البيت الأبيض في مواجهة جديدة مع الكونغرس ومع حليف الولايات المتحدة ومنتقد سياسة أوباما الدائم، بنيامين نتنياهو، الذي لم تأتِ دعوته لإلقاء خطاب أمام الكونغرس، إلا لتصبّ الزيت على نار الأزمة بين المؤسستين الأميركيّتين. خطوة حدت الديموقراطيين إلى إنذار مسؤولين إسرائيليين من أنها ستؤدي إلى نتائج سلبية على العلاقات الإسرائيلية – الأميركية، في الوقت الذي تُستكمَل فيه المحادثات مع إيران بشأن الملف النووي.
رغم هذا القلق، أصرّ رئيس مجلس النواب، (الجمهوري) جون بينير، على دعوة نتنياهو، إذ «من المهم أن يسمع المشرّعون الأميركيون ما سيقوله انطلاقاً من مخاوفهم من المسار الذي تتخذه المحادثات مع إيران». وبتحالفهما، يعمل بينير ونتنياهو على شدّ عصب المشرّعين ككل والديموقراطيين خصوصاً.
في المقابل، بدلاً من السعي إلى الحصول على صفقة مع أعضاء مجلس الشيوخ، وقف الرئيس الأميركي في وجههم، محذراً من مغبة الخطوة التي يقومون بها وتأثيرها في المحادثات. لكن كل ذلك لا يعني أن أمر رفع العقوبات موجود بيده، فالسلطة المنوطة بذلك تبقى بيد الكونغرس. وعليه، فإن الجبهات التي فُتحت على أوباما كثيرة، يغلق بعضها القانون الأميركي نفسه الذي يفتح على أخرى، في حال التمعّن في الخطوات الذي يقوم بها للوصول إلى اتفاق نووي، متخطياً المؤسسة التشريعية.
وفيما الخلافات بين إيران وأميركا ما زالت قائمة على إيجاد مخرج للقضايا المتعلّقة بمستوی وحجم تخصيب اليورانيوم وتفاصيله من إنتاج الوقود النووي، يبقى الجانب الأهم منها متمحوراً حول کيفية إلغاء العقوبات، وهي عملية سياسية واقتصادية لا تشمل الولايات المتحدة وحدها، بل تتعداها إلى مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي.
وللمناسبة، أشار المسؤولون الإيرانيون، أكثر من مرة، إلى أن هذه العقوبات فُرضت من أربع جهات، لا ثلاث، وهي مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والرئيس الأميركي والكونغرس، مدركين تماماً أن لكل واحدة منها خصوصيّتها واختلاف بعضها عن بعض من الناحية الحقوقية والسياسية والتنفيذية. فـ«موضوع إزالة کل واحدة منها يُعَدّ محورياً بحد ذاته، ومعقّداً في الوقت نفسه»، وهذا الكلام ليس سوى لمساعد وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي.

أوباما من جهة والكونغرس من أخرى

تصرّ واشنطن على تنازلات كبيرة من قبل الجانب الإيراني، في مقابل ما تقدمه من تعليق لبعض العقوبات مقدماً وتأجيل للرفع الفعلي إلى موعد أبعد بكثير. ما يصرّح به المسؤولون الأميركيون، هو أن إصرارهم نابع من خوف من أن رفع العقوبات في وقت أقرب، «سيلغي الحافز لدى الجانب الإيراني على الامتثال للاتفاق»، كذلك فإنه سيكون من الصعب إعادة فرضها.
أقلية أميركية تنظر إلى منطق رفع العقوبات من زاوية مختلفة، وترى أن إسقاط عزلة إيران ودمجها في الهيكلية السياسية والاقتصادية للمنطقة وفي الاقتصاد العالمي «سيكون وحده رادعاً كافياً وقوياً ضد أي دافع لإعادة تشغيل ما اتُّفق على توقيفه في برنامجها النووي».
لكن أهم من الذهنيّتين المذكورتين أعلاه، هناك من يفصّل الموضوع انطلاقاً من الأسس القانونية والدستورية البحتة.
بالاحتكام إلى الدستور الأميركي، إن ما يمكن تأكيده هو أن العقوبات التي وعد باراك أوباما برفعها في المحادثات النووية، ليس هو من فرضها، بل الكونغرس، وبالتالي إن من وضعها هو من عليه رفعها.
تريتا بارسي، الباحث الإيراني الذي يعيش في أميركا ومؤسس «المجلس الوطني الإيراني الأميركي»، علّق على الموضوع، منذ أيام، بالقول إن المخاطر أمام الجانب الإيراني كبيرة في هذا المجال، وهي أنه يتعامل «مع رئيس لا يملك القدرة الكاملة على رفع العقوبات، لذا يجب على الإيرانيين أن يطلبوا مقابلاً يتوافق مع هذا الواقع، لتقديم تنازلات».
في ظل غياب موافقة الكونغرس، لا يمكن الرئيس الأميركي أن يقرّر رفعاً دائماً للعقوبات المفروضة على إيران، لكنه قد يلجأ إلى اتفاق تنفيذي يسمح له بالتهرب من القيود، إلا أن ذلك لن يكون كافياً على الصعيد الدستوري.
وعلى هذا الأساس، خرج بعض المعنيين بالشق القانوني من هذه المسألة، باقتراح «المعاهدة» لتلافي الاتفاق التنفيذي الضعيف. لكن هذه المعاهدة يجب أن تكون بنصح الكونغرس وموافقته، وفق ما يشرح المختصان في الشؤون الدستورية والسياسة الدولية، ديفيد ريفكين ولي كايسي.
وإن كانت أميركا قادرة بشخص رئيسها على تخطي موافقة الكونغرس، يبقَ على إيران أن تفضل فكرة المعاهدة لتأكيد رفع العقوبات بنحو نهائي. بالتالي هي التي عليها أن تصر على مشاركة الكونغرس في المفاوضات، فالاتفاقات التنفيذية تحمل وزناً أقل بكثير من المعاهدات، ذلك أنه يمكن الرؤساء مراجعة الاتفاقات التي وقّعها أسلافهم أو إلغاؤها، لكن لا يمكنهم نبذ المعاهدات بسهولة، فالمعاهدة التي يوافق عليها الكونغرس سيكون لها قوة القانون وتأثيره.
علاوة على ذلك، إن نظام العقوبات المتبع على طهران حالياً معقد للغاية، وقد أُنشئ منذ عقود ليتضمن شبكة من الأوضاع المتشابكة وقوانين وقرارات تنفيذية، لا يمكن أن يغيّرها أو يلغيها إلا تشريع جديد. مثال على ذلك، هي العقوبات التي تفرضها على «البنك المركزي الإيراني» وزارة الخزانة الأميركية عبر تصنيف المصرف كـ«كيان يثير قلقاً أساسياً في ما يخص غسل الأموال»، لمشاركته في «تمويل الإرهاب»، من بين أمور أخرى.
وللدلالة أكثر، يمكن اللجوء إلى مثل آخر تطرق إليه القانونيان الأميركيان، ريفكين وكايسي، هو إلغاء عقوبات محدّدة، مثل السماح للمؤسسات المالية الأميركية بالتعامل مع المصارف الإيرانية التي كانت مدرجة على اللائحة السوداء. في هذه الحالة، يشرح الرجلان أنه يجب ألّا يكون مقبولاً لدى الإيرانيين بناء أمر كهذا على اتفاق تنفيذي، قد تتم مراجعته من قبل الرئيس الذي يخلف أوباما.
أخيراً، بتحديد الكونغرس مقاييس أي اتفاق نووي مقبول مع إيران، فإنه يجري تجنّب أسوأ سيناريو ممكن، هو أن يقوم الرئيس الأميركي بالتوقيع على التزام من جانب واحد يتعلق بالعقوبات، ولا يمكنه أن يفي به.
وفي السياق، يضيف المختصان بالشأن القانوني أن صفقة حقيقية وقابلة للتنفيذ «يمكن أن تمنح الرئيس وواشنطن نصراً سياسياً خارجياً، وهذا الأمر ممكن فقط بالتعاون الكامل مع الكونغرس، الذي ينبغي لأوباما أن يعامله كشريك، لا كعدو يجري تجاهله».

الأمم المتحدة من جهة ثالثة

تدرك طهران جيداً أنه إن لم يكن هناك دعم سياسي كامل من أميركا للتوصل إلى اتفاق، فإن النافذة الضيقة من الفرص لرفع العقوبات المفروضة من قبل الأمم المتحدة قد تغلق، لمجرد كونها خطوة يمكن إعاقتها بواسطة فيتو أميركي.
وسابقاً، أفادت التقارير بأنه خلال الجولة الأخيرة من المحادثات، شدّد المفاوضون الإيرانيون على الرفع المبكر للعقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي، لكي تكون جزءاً من أي اتفاق نووي.
إلا أن المعضلات التي يشرحها الباحث في معهد «واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، مايكل سينغ في هذا الإطار، هي أن معظم الخطوات تنطوي على إشكالية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فـ«بمجرد رفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، لا يمكن إعادة فرضها بالسرعة أو السهولة إن كان هناك خرق من الجانب الإيراني».
البديهيّة التي يشير إليها الباحث، هي أنه على الرغم من أن روسيا والصين قد صوتتا لفرض عقوبات في ست مناسبات سابقة، خلال الفترة 2006-2010، لكنهما ستمنعان على الأرجح أي محاولة لعرضها من جديد. «بالتالي، إن رفع العقوبات المفروضة من قبل الأمم المتحدة يجب أن يأتي في المرحلة النهائية وليس الأولى لأي اتفاق»، يقول سينغ، وهذا الهاجس يعبّر عن لسان حال الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والألمانيين، ولا سيما أن التدابير المتخذة من قبل الأمم المتحدة، تشكل حجر الزاوية لجزء كبير من الصياغة الأساسية للعقوبات العالمية.
إضافة إلى ذلك، إن معظم العقوبات ضد إيران لا ترتبط في مساعيها النووية فحسب، بل في «ممارسات» أخرى تعتبرها الأمم المتحدة «غير مشروعة أيضاً». وبعض الإجراءات التي ترتبط بوضوح بالنشاط النووي، مثل قرار مجلس الأمن رقم 1737، تشمل عقوبات أخرى مثل «فرض حظر على تصدير الأسلحة من قبل إيران»، التي يقول سينغ وأمثاله إنه ينبغي الحفاظ عليها بغض النظر عن أي اتفاق.
حالة العقوبات المعقّدة لم تمنع الإيرانيين من تأكيد ضرورة إلغائها مع كافة إجراءات الحظر، الأمر الذي يشغل جزءاً أساسياً من أي اتفاق بالنسبة إليهم، فيما يشكل بالنسبة إلى الغرب وسيلة يستخدمها لإشباع حب السيطرة الذي يتملّكه.
ففي رسائل منفصلة وجهها إلى نظرائه من مختلف الدول، شرح وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، مواقف بلاده المبدئية في المفاوضات مع «5+1». وأكد أن أحد أهداف برنامج الخطة المشتركة، هو إلغاء جميع إجراءات الحظر الذي يشكل جزءاً أساسياً من أي اتفاق، مشيراً إلى أن البعض لا يريد التخلي عن هذه الأداة اللاإنسانية وغير الشرعية وغير البناءة حتى بثمن المخاطرة بكل العملية التي أسهمت في بناء الثقة والشفافية، فـ«التشبث بالحظر بشدة يعرقل الوصول إلى الاتفاق الشامل على الأمد البعيد».




نجاح جهود تقليص الحشد لمشروع قانون عقوبات جديد

خلافاً للسنة الماضية، حين حصل مشروع قانون لفرض عقوبات جديدة على إيران، على رعاية مشتركة من 17 ديموقراطياً وكل الجمهوريين، تقلّص الدعم لمشروع مماثل بعدما تضافرت جهود البيت الأبيض لحشد معارضة له، ليحظى حالياً، برعاية 7 ديموقراطيين فقط.
يعني ذلك أن الضغط لفرض عقوبات اقتصادية جديدة على إيران يواجه معركة صعبة، قد لا تنتهي بالحصول على الغالبية الواقية من حق النقض. فمن أجل تحصيل غالبية من 67 صوتاً، سيحتاج صقور مجلس الشيوخ إلى مزيد من الديموقراطيين. وإن لم يتمكن داعمو العقوبات من استقطاب 14 ديموقراطياً على الأقل لإمرار القانون، لن يكون باستطاعتهم إبطال الفيتو الذي ينوي أوباما استخدامه، وكل ما سيقومون به هو إحراج أنفسهم من خلال شرف المحاولة.
(الأخبار)