عند نهاية سبعينيات القرن الماضي كان الاقتصاد الصيني من الأضعف في العالم، وقواه العاملة من الأفقر، أي على العكس تماماً من الأوج الذي حققته البلاد خلال مراحلها الإمبريالية الممتدة منذ ما قبل الميلاد حتّى بدايات القرن العشرين حين تأسست جمهورية الصين، وبعدها جمهورية الصين الشعبية.غير أن الترهّل لم يطُل، حيث تبنّى قادة البلاد برنامج إصلاح اقتصادي وانفتاحاً على الأسواق العالمية تحول إلى أسطورة في علم الإدارة الاقتصادية الاجتماعية – رغم مشاكل الفساد والقمع التي تُعدّ منتجاً ثانوياً لحكم الحزب الواحد في بلد يُشكّل سكانه 20% من عدد سكان الأرض تقريباً.

هكذا سجّلت حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نمواً سنوياً معدله 8% منذ عام 1978، وانعتق مئات الملايين من الفقر، وتتجه البلاد لتصبح الأكبر اقتصادياً (وهي ربما الأكبر حالياً وفقاً لبعض الحسابات).
اليوم تقف الصين أمام تحديات جديدة، في قلبها التباطؤ الاقتصادي. إذ صحيح أن معدلات النمو التي تحققها حالياً لا تراها البلدان المتقدمة والبلدان النامية الأخرى سوى في الأحلام، إلا أنها دون المقومات المطلوبة للمحافظة لتبقى هذه الماكينة الآسيوية في تألقها الإنتاجي المعهود.
وفقاً لمسح أجرته وكالة "فرانس برس" شمل 15 خبيراً اقتصادياً، بلغ معدل النمو الاقتصادي في الصين 7.3% في عام 2014، ما يُعدّ أضعف أداء خلال 24 عاماً، حيث كان عند 3.8% فقط خلال عام 1990، ومن بعدها ارتفع إلى مستويات مثيرة للإعجاب وللغيرة في آن واحد.
واستناداً إلى المسح نفسه، سيتراجع النمو أيضاً هذا العام إلى 7%. المعدل يبقى قوياً، ويعكس الوضع الجديد في البلاد بعد عقودٍ من التوسع اللافت، بيد أن للتراجع دلالاته المستقبلية عن المسار الذي قد تسلكه البلاد.
لدى دمج هذه التوقعات مع معطيات اقتصادية ومالية أخرى، يُشدّد بعض الخبراء على أن البلاد تحتاج اليوم إلى جرعة من التحفيز أو البرامج الاستثمارية لكي تحافظ على زخمها الاقتصادي؛ وهو زخم ضروري لضمان الاستقرار الاجتماعي أيضاً.
من جهة هناك مخاطر الانكماش التي تظهر في مؤشر أسعار المستهلك. فقد ارتفعت الأسعار في الصين بنسبة 2% فقط في العام الماضي، وهو مستوى أدنى بكثير من هدف الحكومة البالغ 3.5% (صحيح أن ارتفاع الأسعار يُعدّ مزعجاً لميزانيات العائلات، غير أنه عند حدود معينة ضرورية للدورة الاقتصادية الكلية).
ومن جهة أخرى تبرز تحديات أساسية مثل الإفراط في منح القروض، الاستهلاكية والاستثمارية على حد سواء، وتحديداً القروض غير الفاعلة التي تتحوّل إلى عبء على الاقتصاد، وقد تفجّر أزمة تماماً كما حدث في الاقتصاد الأميركي عام 2008.
يُمكن الحديث أيضاً عن ضعف الصادرات. فخلال عام 2014 خابت توقعات الحكومة في هذا المجال، وذلك للعام الثالث على التوالي. حيث نمت التجارة الخارجية بنسبة 3.4% مقارنة بهدف الحكومة المحدد عند 7.5%.
صحيح أن الأهداف لم تحقق إلا أنّ البلاد حققت فائضاً في ميزانها التجاري بلغ 380 مليار دولار، وهو الاعلى المسجّل تاريخياً.
المخاوف من الانكماش موجودة بالتأكيد، ولكن في مقابلها هناك رؤية واقعية تفيد بأنه رغم التحديات يبقى الأفق مفتوحاً أمام الاقتصاد الصيني الذي بات يساوي ضعف الاقتصاد الياباني، وأكبر من اقتصادات إيطاليا، ألمانيا وفرنسا مجتمعة.
هذا برأي أحد أبرز خبراء المال والاقتصاد، جيم أونيل. المصرفي الذي أطلق تسمية BRIC على مجموعة البلدان النامية الواعدة عند بداية الألفية، يُبدي تفاؤلاً بأداء الاقتصاد الصيني خلال المرحلة المقبلة، لثلاثة أسباب تحديداً.
تلعب البلاد دور الأيقونة الاقتصادية في الأقاليم النامية والشريك الأهم للبلدان النافذة المتعثرة

أولاً، يؤدي تراجع أسعار النفط إلى تحفيز القدرة الشرائية لدى المستهلك الصيني، ما يحفز العجلة الاقتصادية خارج تأثير حركة الاقتصاد العالمي ونمو الصادرات. ثانياً، صحيح أن أسعار العقارات والمساكن تراجعت وقد تُشكّل قلقاً للمراقبين، إلا أن الحكومة كبحتها قبل أن تصل إلى مراحل حساسة.
أما السبب الثالث للتفاؤل، بحسب جيم أونيل، فهو طبيعة التضخم في الاقتصاد الصيني التي تسمح للسلطات باعتماد السياسات النقدية المتكيفة مع التغييرات.
"لدى دمج هذه العوامل، تسهل أمام الصين مهمة إعادة التوازن إلى اقتصادها عبر رفع الأجور، وإصلاح نظام الملكية العقارية للنازحين إلى المدن وكذلك إصلاح أنظمة التقاعد" يؤكد الخبير نفسه. "هكذا، عندما تتولى الصين رئاسة مجموعة العشرين (G20) في عام 2016، ستقوم بذلك على أنها عضو مندمج تماماً في الاقتصاد العالمي".
يقصد أونيل بهذا الاندماج أن يكون البلد الآسيوي، الذي يصل حجم اقتصاده إلى 10 تريليونات دولار، متماهياً مع مقتضيات العولمة التي يُعدّ النظام المالي الغربي أساسها.
ولكن إنجازات الصين في العولمة هي أكبر من اندماج في اقتصاد كوني تبقى الولايات المتّحدة سيدته الأولى، تحديداً في المجالين التكنولوجي والمالي. فالبلاد تحولت لتلعب دور الأيقونة الاقتصادية في الأقاليم النامية، مثل أفريقيا وأميركا اللاتينية، ولتكون الشريك الاقتصادي للبلدان النافذة المتعثرة مثل روسيا.
أخيراً، شدّد نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة أفريقيا، مختار ديوب، على هذا الواقع. وأشار خلال محاضرة ألقاها في بكين إلى أهمية دور الصين في العولمة تحديداً عبر نشاطها الأفريقي: تعكس المشاريع الاستثمارية الصينية في أفريقيا – التي تُصنّف على أنها القارة النامية – من الطاقة النووية في أفريقيا الجنوبية وصولاً إلى إنتاج النفط في السودان مروراً بالطاقة الشمسية في مالاوي، الوجود الصيني القوي وآفاقه؛ كذلك فإنّ ربع الصادرات الأفريقية تتجه إلى الصين. أهمية يعكسها وجود أكثر من 51 مليون مقال عن العلاقات الاقتصادية بين الصين وأفريقيا!
وإذا صدقت توقعات جيم أونيل، فإنّ ملايين أخرى من المقالات ستُنشر في المستقبل عن دور الصين في العولمة، رغم التعثّر بين منعطف اقتصادي وآخر.