أوروبا تخرج من عباءة الأحزاب التقليدية

  • 0
  • ض
  • ض

في ظل السخط الشعبي المتزايد إزاء الأزمتين، الاقتصادية والسياسية، اللتين تواجههما أوروبا، يبدو أن عهد حكم الأحزاب التلقيدية، ضمن المنظومة السياسية لمرحلة «ما بعد الحرب العالمية الثانية»، بات على مشارف الانتهاء. إذ تشهد أوروبا راهناً صعود أحزاب يسار جديد، وأخرى يمينية متطرفة، إلى الساحة السياسية، تطرح نفسها كمنافس جدي على السلطة في مواجهة النخب الحاكمة. قد يكون ما نتج من الانتخابات التشريعية في إسبانيا، أمس، هو أحدث مثال على ذلك، لناحية تقلّص حجم تمثيل الحزبين المهيمنين على الساحة السياسية منذ نهاية عقد السبعينيات، لمصلحة صعود حزبين جديدين، أحدهما حزب «بوديموس» الحديث العهد، والذي كان يوصَف سابقاً بأنه «سيريزا إسبانيا». تشير هذه التبدلات، التي رأى رئيس البرلمان الأوروبي، مارتن شولتز، في بعض وجوهها تهديداً وجودياً محتملاً لـ«اليورو»، إلى أزمة «شرعية سياسية»، إذ بدأت الفئات الناخبة تبتعد عن النخب الوسطية التقليدية، باحثةً عن البرامج التغييرية، وعن لغة سياسية جديدة، أكثر اقتراباً من الناس ومن مشاكلهم اليومية. ويرى الباحث اليوناني، رومان جيروديموس، أن ما يجمع أحزاب القطبين (يسار جديد ويمين متطرف)، هو حصولهما على أصوات «الحشود الغاضبة» بسبب الواقع الذي يعيشونه، أو بسبب ما يتصورون أنه التفسير الصحيح لذلك الواقع، كما هي الحال مع مناصري اليمين، بشكل خاص. لذلك، ليس من المستغرب، في حال اليمين المتطرف، بحسب الباحث في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية في «جامعة أوسلو»، سيندره باغستاد، أن يكسب نسباً أعلى من الناخبين اليوم، إذ إنه نجح تدريجاً، خلال العقود الثلاثة الماضية، باستبدال اللغة الاقتصادية للتعبير عن المشاكل الاجتماعية، بلغة دينية وثقافية شعبوية. وهذا ما يجعل من استغلال أزمة اللاجئين والمهاجرين، على سبيل المثال، لإخافة الناس، أمراً سهلاً جداً، ومنطقياً، بل حتى بديهياً، بالنسبة إلى جمهور هذه الأحزاب.

تقلّص حجم تمثيل الحزبين المهيمنين على الساحة الأسبانية
وجدير بالذكر، بحسب تقرير لمركز «تشاثم هاوس» البريطاني، أنّ القاعدة الشعبية للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا ترتكز بأغلبها على «الرجال البيض (الأكبر سنّاً)، غير المتعلّمين، من الطبقة الوسطى والعاملة». وهي الفئة الأكثر عرضةً للتأثر بما يسميه، الباحث الأوغندي، محمود ممداني، بـ«التعويم الثقافي للسياسة». وتحوز هذه الأحزاب مناصرين من فئة الشباب أيضاً، لكنّ غالبية هؤلاء تميل إلى اليمين المتطرف لا لعنصريته وقوميته، بل لأسباب اقتصادية، إذ تعاني شريحة كبيرة من الشباب الأوروبي من البطالة، ومن غلاء المعيشة، ومن انخفاض الضمانات الاجتماعية بسبب سياسات التقشف. ويرى الكثير من هؤلاء في الخروج من «اليورو» حلّاً محتملاً لمشاكلهم. وإن تمكنت أحزاب يمينية متطرفة من الوصول إلى الحكم في بلاد كبولندا والنروج، تبقى شعبيتها في بلاد أخرى كبريطانيا وفرنسا، مرتبطة بوظيفتها التي تقتصر، على ما يبدو، على دفع النخب الحاكمة إلى التماهي مع سياساتها. ويرى وزير المالية اليوناني السابق، يانيس فاروفاكيس، أنّ واقع وجود هكذا أحزاب كافٍ وحده لتغيير مسار سياسات الطبقة الحاكمة. في حال الأحزاب والأطراف ذات التوجهات اليسارية، يرى الباحث الأميركي في مجال العلوم الاجتماعية، جايمس بيتراس، أنّ الأزمة الاقتصادية هي السبب الرئيس في صعودها، وبشكل خاص، الخفوضات الحادة في الأجور، ومعاشات المتقاعدين، وغيرها من برامج الرعاية الاجتماعية، إلى جانب ارتفاع الضرائب، ونسب البطالة، والتوظيف المؤقت ــ وهي سياسات تتحمّل مسؤوليتها حكومات الأحزاب التقليدية، التي أصبحت بمجملها وسطية وخارجة عن الانقسام الواضح بين اليمين واليسار. ولأنّ المفاهيم الاقتصادية اليسارية عصية على التحوير، اعتمدت الأحزاب والائتلافات ذات التوجهات اليسارية قلب المعادلة و«إعادة الاقتصاد إلى جوهر الحديث»، على حد تعبير الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك. علماً بأنّ هذه الأطراف لم تتطرق بشكل معمّق إلى علاقة الأزمات الاقتصادية والسياسية بالنظام الرأسمالي وبانهياره، باستثناء البعض، كفاروفاكيس مثلاً الذي سيُخرَج في ما بعد من حكومة «سيريزا» في اليونان لفتح الباب أمام إنجاح المفاوضات مع الجهات الدائنة. وتشكّل أحزاب مثل «سيريزا» و«بوديموس» في إسبانيا، تهديداً (وإن كان رمزياً) للمنظومة الأوروبية، وللأوليغارشيات الحاكمة ولمصالحها. ويشرح فاروفاكيس أن هدف «مجموعة اليورو» من خلال سياساتها باتجاه اليونان كان «تحذير الأوروبيين، بألا ينتخبوا ائتلافات مثل سيريزا». ويضيف أنه لم يكن يهم «مجموعة اليورو» استعادة الديون، بل قامت الأطراف الدائنة بهندسة رزمة الديون والإصلاحات بطريقة يحتَّم على إثرها أن تضيع الأموال الممنوحة لليونان، لتصبح التجربة اليونانية، وإن دمّرت البلاد تماماً وأخرجت من «اليورو»، مثالاً لكل أوروبا. ويرى سلافوي جيجك أن أهمية «سيريزا» الحقيقية كانت تكمن في أنّ الائتلاف أصرّ على البقاء في «اليورو»، ومقارعة اللاعبين الكبار فيه. ولعلّ ظاهرة «سيريزا» انتهت فعلياً مع «إخراج» فاروفاكيس من الحكومة، وما حمله ذلك من مضامين، إذ مثّلت تلك اللحظة انقسام «سيريزا» بين من يريد الانصياع لرغبات «اليورو» ومن يريد الانفصال عنه تماماً. يرى فاروفاكيس (الذي ينقل تجربته كوزير مالية لليونان في «مجموعة اليورو») أن أوروبا تعيش «حالة إنكار» حيال عدم أهلية نظامها المالي، من حيث البنية، للاستمرار بعد أزمة مالية كأزمة عام 2008. ويشدد على أن جميع الإجراءات التي اتخذها «اليورو» لتَجنّب الأزمة، انقلبت عليه، لتؤكد أنه لا مفر منها. «حالة الإنكار» هذه تجعل أن يكون من غير المستغرب نجاح حزب يميني (متطرف) في تأجيج مشاعر إيديولوجيّة، وثقافية عنصرية، للحصول على نسبة عالية من الأصوات، ولا تمكن اشتراكيين وشيوعيين، رغم العدائية الشديدة تجاههم من الجميع، من فرض أنفسهم على الساحة السياسية. فانتهاء مرحلة انفراد الأحزاب التقليدية «الوسطية» بالحكم في أوروبا، لا يمكن فهمها بالكامل من خارج السياق العام للأزمة الاقتصادية، التي ترفض أوروبا الاعتراف بها. وكما يقول الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي، في سياق حديثه عن منطقة «اليورو»، «لقد خلقنا وحشاً»... ويرفضون الآن مواجهته.

  • زعيم «بوديموس»، بابلو ايغلاسياس، يحتفل بنتائج حزبه في مدريد فجر اليوم

    زعيم «بوديموس»، بابلو ايغلاسياس، يحتفل بنتائج حزبه في مدريد فجر اليوم (أ ف ب )

0 تعليق

التعليقات