عادّة ما تُصنّف قطر على أنها الإمارة الصغيرة ذات الطموحات الكبيرة، وفي الوقت نفسه ذات الإمكانات الهائلة لتحقيقها. هكذا تتمكن الدوحة التي بالكاد يتخطى عدد سكانها المليون، من الاستثمار في تعديل خرائط الشرق الأوسط عبر الحروب والتأثير السياسي.ليست كلّ البلدان إمارات وممالك تطوف على الموارد الطبيعية، ولكن لدى كلّ دولة طموحات عادة ما يحدّها الحجم الاقتصادي والسياسي والعسكري؛ بغياب النفط والغاز تبحث كل دولة صغيرة عن الأداة المناسبة لإثبات حقها أو موقفها مهما تكن تداعياته أو صحّته.

هكذا بدا الهجوم السيبيري ـ أي الهجوم الرقمي باستخدام البرامج المعقدة ـ الذي تعرضت له شركة «سوني» (Sony) الأميركية، خياراً مناسباً لكوريا الشمالية لترجمة رفضها عرض فيلم «المقابلة» الذي يسخر من قائدها كيم جون أون.
لم يثبت حتى الآن تورط بيونع يانغ في الهجوم، إنما الأكيد أن البلدان تستعين على نحو متزايد بالعالم الرقمي لتأكيد موقف، أو نثر بذور الرعب أو التخريب؛ إذ يبدو أن اللعب في هذا العالم أكثر فاعلية وأقل كلفة بكثير من الواقع المادية.
لم تكن «سوني» الأولى التي تتعرّض لهذا النوع من الهجوم الرقمي. في الخريف الماضي اقتحم القراصنة قاعدة البيانات الخاصة بالمصرف الأميركي الشهير «جاي بي مورغن» (JP Morgan) ما دفع إدارته إلى التصريح بأنها سترفع ميزانيتها المخصصة للحماية السيبيرية إلى نصف مليار دولار خلال السنوات القليلة المقبلة.
نحن نتحدث هنا عن ميزانية شركة واحدة؛ حتّى وإن كانت تعنى بإدارة مليارات الدولارات، وتؤدي دوراً محورياً في النظام المالي القائم، تبقى مؤسسة واحدة بين وحدات كثيرة تتعرّض للاختراق أو تستعد بنحو أو بآخر له.
من بين الشركات الأميركية التي عاشت التجربة المريرة، مجموعة تجارة التجزئة الشهيرة «Target» التي تمكّن القراصنة من الحصول على بيانات بطاقات الائتمان والدفع لأكثر من 40 مليون زبون لديها.
وإليها تُضاف أسماء كبيرة مثل سلسلة المتاجر الخاصة بمعدات البناء والصيانة «Home Depot» وتلك الخاصة بالتجهيرات المكتبية «Staples».
الحروب الرقمية جذابة للدول الصغيرة ذات الطموحات الواسعة المحدودة الإمكانات

جميع الشركات المذكورة لديها فروع على امتداد الولايات الأميركية والمقاطعات الكندية. وقد دفعت الهجمات التي تعرضت لها خلال فترة قصيرة بعض المراقبين إلى الجزم بأن الولايات المتّحدة تخسر الحرب السيبيرية تحديداً لأن لديها الكثير لتخسره ولأن شركاتها لم تتطوّر وفي بالها أن الحماية الرقمية هي إحدى الأولويات.
غير أن ما تعرّضت له «سوني» كان مميزاً. فالقراصنة أعربوا صراحة عن أن نياتهم ليست مادية، فهم نشروا كلّ ما التقطوه خلال الهجوم ليكون متاحاً على الإنترنت؛ من أفلام، رسائل إلكترونية ومعلومات شخصية عن موظفي الشركة وخططها.
كذلك فإنّ الهجوم اتسم بنوع من الحرفية لم يُرصد في الهجمات التي تعرّضت لها الشركات الأخرى. وإن كان البعض يُلقي باللائمة على إدارة الحماية السيبيرية لدى «سوني»: عندما تحفظ كلمات السرّ في محفظة إلكترونية (Folder) عنوانها «كلمات السرّ» يجب أن تتوقع جميع أنواع الاختراقات!
تستمرّ التحقيقات الخاصة بما تعرّضت له الشركة يابانية الأصل ـ والتحقيق قد يوصل إلى كوريا الشمالية، إلى عالم القراصنة المجهولين Anonymous أو ربما إلى موظف ذي اطلاع واسع حاقد على إدارة الشركة أدى دور حصان طروادة. ومع التحقيقات تستمرّ الدول والشركات والمجموعات بتحصين جبهاتها وتعديل أسلحتها في هذه الحرب الدائرة.
الأكيد هو أن هذه الحرب لا تُشبه بأي شكل الحروب التقليدية. فهي لا تحتاج إلى الموارد المادّية الهائلة، إلى الترسانات العسكرية أو إلى الانتشار الميداني للآليات والعناصر.
لذا فإنّ الحروب الرقمية تبدو جذابة على نحو خاص للدول الصغيرة ذات الإمكانات المحدودة، والطموحات الواسعة.
وفقاً لتحليل نشرته مجلة «Fortune» الأميركية أخيراً، فإنّ الهجمات السيبيرية التي شهدها العالم أخيراً تُظهر أنّ الموارد المطلوبة لشنّ هجوم من هذا النوع هي أقل بكثير من تلك المطلوبة للاحتماء منه؛ بمعنى آخر، لكي تُلحق الضرر بشركة بدولة أو بعائلة يكفيك حاسوب عادي، اتصال بشبكة الإنترنت ومبرمج فذّ. أما للاحتماء من هجوم كهذا فالمطلوب بنية تحتية رقمية حديثة تتطلب الاستثمارات المستدامة.
لا ينفي الخبراء أن تلك الاستثمارات ضرورية أيضاً لتطوير الأسلحة الرقمية الفعالة. مثلاً، عمدت وحدة الأبحاث والتطوير التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، والمسماة DARPA، إلى استثمار 110 ملايين دولار في «الخطّة x» وهو برنامج تأسيسي للحرب السيبيرية يهدف إلى استخدام قوّة الحواسيب لتحسين فاعلية الهجمات الرقمية؛ وهذا البرنامج هو جزء من استثمارات تبلغ 1،5 مليار دولار خصّصتها الولايات المتّحدة في هذا المجال حتّى عام 2017.
صحيح أن بلداناً كثيرة صغيرة لا تتمتع بهذا الرفاه المالي إلا أنّ أهمية العامل المادي تضعف في هذا المجال: يتداول الإعلام الغربي معلومات مستقاة من دراسات استخبارية تُفيد بأنّ أكثر من 140 بلدا لديها برامج لتطوير أسلحة سيبيرية عند مستويات متفاوتة.
تنقل «Fortune» عن الباحثة في «مركز الأمن الأميركي الجديد»، آيمي تشانغ، تحليلاً حول هذه المسألة انطلاقاً من مثال «سوني»: صحيح أن كوريا الشمالية تفتقد البنية التحتية اللازمة لدعم صناعة برمجية محترمة، أو حتّى لدعم برنامج أكاديني عن علوم الكومبيوتر، غير أنها ترصد أهمية الاستثمار في برامج الأسلحة السيبيرة التي يُمكن استخدامها لاحقاً لسرقة التكنولوجيا المطلوبة من بلدان أخرى!
يقوم هذا المنطق على معادلة العائد الاقتصادي البحت: إن تطوير الأسلحة الرقمية يؤمّن رافعة سياسية وتكنولوجية هي بمثابة منح الصنارة للجائع عوضاً عن إسكاته بسمكة واحدة.
في الطرف الآخر من المعادلة، ليس غريباً أن تكون الولايات المتّحدة وإسرائيل هما من طوّر أوّل سلاح سيبيري فتّاك: إنه الفيروس Stuxnet وهو عبارة عن دودة رقمية معقدة استُخدمت لمهاجمة البنية التحتية النووية الإيرانية، وتحديداً منشأة تخصسب اليورانيوم في نطنز، منذ عام 2007.
في كتابه، «العد العكسي نحو الساعة الصفر»، يشرح كيم زيتر، وهو صحافي مخضرم في العالم الرقمي، كيف أن هذا الفيروس الذي بقي قرابة عامين مختبئاً من أعين العلماء الإيرانيين، يمثّل السلاح الرقمي الأول الذي انطلقت معه الحرب السيبيرية.
حتّى اليوم، وبرغم كلّ الهجمات التي سُجّلت خلال السنوات الثماني الماضية ومنها هجوم إيراني على حواسيب شركة «أرامكو» السعودية، لم يظهر سلاح مماثل للفيروس الأميركي ـ الإسرائيلي المذكور. واقع يردّ عليه زيتر بالتالي: «نظراً للاحتمالات المتنوعة والواسعة لإطلاق هذا النوع من الهجمات ليست سوى مسألة وقت قبل أن يُصبح إغراء الهجوم الرقمي أكبر من أن يُقاوم».
تؤكّد آيمي تشانغ هذه الفكرة بقولها إنّ «الحرب السيبيرية هي بديل رائع عن الأسلحة التقليدية». فعلياً، هي تمثل خياراً أقل كلفة وأكثر يسراً للبلدان الصغيرة يسمح لها بشن الهجمات مع احتمال ضئيل بالانكشاف، ومن دون مخاطر الردود.