كانوا في غرفة الاجتماعات يتداولون في شؤون تحرير مجلتهم الأسبوعية. نقاش في موضوع العدد المقبل، واستماع إلى اقتراحات وتوزيع لتكليفات. صوت إطلاق نار خرق السجال المحتدم. مجموعة مسلّحين فاجأت المتحلقين حول طاولة الاجتماعات من دون سابق انذار. 12 قتيلاً ونحو 20 جريحاً. وتمتمات بكلمات ذات طابع إسلامي.
هذا باختصار ما حصل في مقر مجلة «شارلي ايبدو» الساخرة في باريس أمس. هجوم برشاش وقاذفة صواريخ شنّه مسلّحون ملثمون. أما الضحايا، فمعظمهم من الصحافيين، بينهم رسامو الكاريكاتور الأربعة الكبار، الأكثر شهرة في فرنسا، وضابطا شرطة. السلطات الفرنسية سارعت إلى إعلان حالة الإنذار القصوى في العاصمة، أي رفعها إلى «انذار بوقوع هجمات».
وسائل إعلام غربية تحدثت عن أن «رجلين يحملان كلاشنيكوف وقاذفة صواريخ اقتحما مقر صحيفة شارلي ايبدو في الدائرة الحادية عشرة من باريس حيث حصل تبادل إطلاق نار مع قوات الأمن». وزير الداخلية الفرنسي، برنار كازونوف، قال في ختام اجتماع أزمة في الإليزيه، إن «ثلاثة مجرمين» شاركوا في الهجوم الدموي، كاشفاً عن أن كل الإجراءات تتخذ «للقضاء في أسرع وقت ممكن» على من يقف «وراء هذا العمل الهمجي».
الأزهر يدين
«الهجوم الإرهابي»: الإسلام يرفض أي أعمال عنف

إلا أن الشرطة الفرنسية، وحتى كتابة هذا التقرير، لم تكن قد تمكنت من إلقاء القبض على الملثمين الذين فروا باتجاه ضواحي باريس الشرقية، بعدما استولوا على سيارة، وذلك في ظل تأكيدات الدوائر الأمنية لاحتمال شنّ هجمات أخرى.
وفيما أفادت الشرطة بأنها حدّدت هوية المهاجمين الثلاثة، وهم فرنسيون، من بينهم شقيقان (32 عاماً و34 عاماً) إضافة إلى شاب (18 عاماً)، كشفت وسائل إعلام غربية وفرنسية عن أسمائهم وهي: سعيد كواشي وحميد كواشي وحميد مراد. وأشار مسؤول في الشرطة إلى أن أحد الشقيقين سبق أن مثل أمام المحكمة في اتهامات بالإرهاب.
ومع وصف الشرطة لما حصل في «شارلي ايبدو» بأنه «مذبحة»، أظهرت لقطات فيديو قصيرة لأحد الهواة بثتها محطات تلفزيونية فرنسية، رجلين ملثمين خارج المبنى. وحين شاهد أحدهما رجل شرطة يرقد مصاباً على الأرض، خطا فوقه ليقتله بالرصاص من مسافة قريبة. وفي مقطع آخر على محطة تلفزيون «إي تيليه»، سُمع الرجلان يهتفان: «قتلنا شارلي ابدو، انتقمنا للنبي محمد».
وفيما لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم، إلا أن ذلك لم يمنع مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» من الإشادة بالهجوم. وقال أحدهم، على ما نقلت عنه وكالة «رويترز»، إنه «انتقام من إهانة المجلة الساخرة للإسلام». وأضاف المقاتل السوري، أبو مصعب، في صفوف «الدولة الإسلامية» عبر الإنترنت من سوريا: «لقد ثأر أسود الإسلام لنبيّنا»، مشيراً إلى أن «هؤلاء هم أسودنا. هذا هو أول الغيث... والقادم أسوأ».
وقال أبو مصعب: «ليخف أولئك الصليبيون، إذ يتعين عليهم أن يخافوا»، مضيفاً أنه لا يعرف المسلحين الذين نفذوا الهجوم، لكنه أشار إلى أنهم «يمشون على خطى أمير المؤمنين (زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي). وشيخنا (زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن)».
وعقب الهجوم، هرع الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إلى المكان، حيث أكد أن «هذا هجوم إرهابي من دون شك». وشدد الرئيس الفرنسي على أنه اتُّخذت إجراءات للعثور على المسؤولين، مشيراً إلى أنهم «سوف يُطاردون حتى الإمساك بهم وتقديمهم للعدالة». وفي كلمة قصيرة للأمة نقلتها شبكات التلفزيون، مساءً، أكد هولاند أن «سلاحنا الأفضل هو وحدتنا. لا شيء يمكن أن يقسمنا ولا شيء يجب أن يفرقنا»، موضحاً أن الأعلام ستنكس لمدة ثلاثة أيام، ومعلناً الخميس «يوم حداد وطني».
من جهته، قال رئيس الوزراء، مانويل فالس، إن إجراءات الأمن ستعزّز في مراكز النقل والمواقع الدينية والمكاتب الإعلامية والمتاجر الكبيرة.
وتلبية لدعوة العديد من النقابات ووسائل الإعلام والأحزاب السياسية، تجمّع مئات آلاف الفرنسيين في مختلف المدن الفرنسية. وحمل بعضهم شارة سوداء كتب عليها «أنا شارلي»، ورفعت لافتات كتب عليها «شارب مات حراً» في إشارة إلى رسام الكاريكاتور ومدير الصحيفة الذي قتل في الاعتداء مع ثلاثة رسامين آخرين. كذلك فعل آلاف المواطنين الأوروبيين في كل من برلين وبروكسل ولندن ومدريد.
وفي إطار ردود الفعل الإسلامية الرسمية الفرنسية، سارع رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية إلى إدانة الهجوم، مؤكداً أن مهاجمي «شارلي إيبدو»، «انتقموا من المسلمين أولاً بأفعالهم اليوم».
ورأى عمر الأصفر أن «قيام مجهولين، بقتل صحافيين، عمل إجرامي، ولا يمكن أن نسميه إلا إرهاباً حتى لو كان صاحبه، يحمل عقيدة أو ديناً، وإذا كانوا يريدون أن ينتقموا بفعلهم، اليوم، فنقول إنهم انتقموا من المسلمين أولاً، لأن هناك من سيحاول أن يستغل الحادث، باعتباره فرصة للنيل من الإسلام». وتمنّى الأصفر، الذي أرسل وفداً من اتحاد المنظمات إلى مكان الحادث فور وقوعه لإدانته، ألا يؤثر الحادث بوضع المسلمين في فرنسا، أو إعادة مفهوم الإسلاموفوبيا مجدداً.
ودفع هذا الهجوم الأزهر إلى إصدار بيان إدانة شدّد فيه على أن الهجوم «إرهابي»، مؤكداً أن «الإسلام يرفض أي أعمال عنف». كذلك أثار الهجوم موجة تنديد واسعة من قبل قادة دول وممثلي منظمات إقليمية ودولية، فشجب مجلس الأمن «الهجوم الإرهابي الهمجي الجبان» على مقر الصحيفة، داعياً إلى إحالة مرتكبي الهجوم على العدالة.
ووصف الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الهجوم بأنه «إرهابي»، عارضاً المساعدة على فرنسا. وقال إن إدارته على اتصال بالمسؤولين الفرنسيين لبحث «تقديم المساعدة المطلوبة لإحضار الإرهابيين أمام العدالة».
من جهتها، أدانت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الإيرانية، مرضية أفخم، هذه الأعمال التي اعتبرتها «استمراراً لموجة تشدّد وعنف جسدي ونفسي لا مثيل له انتشر في العالم خلال السنوات العشر الماضية»، إلا أنها رأت أن هذه الأعمال سببتها أيضاً «السياسات السيئة وسياسة الكيل بمكيالين بمواجهة أعمال العنف والتطرف».
وتطرّقت المتحدثة الإيرانية إلى مسالة نشر رسوم اعتبرت مسيئة إلى النبي محمد من قبل «شارلي ايبدو» وغيرها من الصحف الأوروبية، فقالت إن «استخدام حرية التعبير وإهانة الديانات السماوية وقيمها ورموزها غير مقبول».
وبعث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، برسالة تعزية إلى نظيره الفرنسي، فرانسوا هولاند، يدين فيها بـ«حزم» الهجوم الذي يعد الأكثر دموية منذ أربعين عاماً على الأقل. وعبّر الفاتيكان عن استنكاره للهجوم المزدوج الذي استهدف مواطنين فرنسيين وحرية التعبير، فيما أدان رئيس المفوضية الأوروبية، جون كلود يانكر، الهجوم الذي وصفه بالبربري، وعبّر في بيان عن صدمته من الحادث غير المبرّر.
وقال رئيس الوزراء البريطاني، دفيد كاميرون، إن بلاده تقف متحدة مع الشعب الفرنسي. كذلك فعلت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي أكدت أن ألمانيا تقف إلى جانب فرنسا في «هذه الأوقات العصيبة». ووصفت مدريد الهجوم بأنه «عمل إرهابي جبان وخسيس»، مؤكدة «دفاعها اليوم أكثر من أي وقت مضى عن حرية الصحافة».
(الأخبار، رويترز، أ ف ب، الأناضول)