سجّل هدفاً في مرماه كان نتاجاً لـ«عقدة ذئب» عاناها عقوداًدمشق ــ أرنست خوري
يقسو بعض الأتراك على أنفسهم عندما يراجعون تجربتهم الطويلة مع العسكر.
هذا إن كانت المراجعة جائزة، بما أنّه لم تمر حقبة طويلة بعد على انتهاء مرحلة كان أستاذ ظالم اسمه الجيش سمتها الرئيسية، وتلميذ شاطر اسمه الشعب، بعض الشعب.
صحيح أنّ آخر انقلاب (ناعم) شهدته البلاد حصل عام 1997، حين أُرغم نجم الدين أربكان على الرحيل وإلّا، غير أنّ الوضع لم يستقر بعد لمصلحة المدنيّين على حساب العسكر. نعم، هناك غالبية تستبعد عودة عصر الانقلابات لأسباب عديدة. لكن ذلك كله لا يكفي للجزم، فهذه تركيا في النهاية، حيث كل شيء جائز.
الشعب التركي حالياً «أشبه بمجموعة من التلامذة، كان أستاذهم قاسياً جداً، وفجأةً رحل الأستاذ، فدبّت الفوضى». هكذا تصف صحافية تركية الوضع. لكن الأكيد أن المجتمع التركي اليوم لم يعد يريد أستاذاً يتدخل في تفاصيله، رغم أنّ مؤسسة الجيش «لا تزال أكثر المؤسسات التي يحترمها الرأي العام».
مواطنها، أكاديمي يعمل في أحد مراكز الأبحاث التركية ـــــ الأميركية، يسخر من الجيش بتشفٍّ وحقد: «لقد سجّل هدفاً قاتلاً ونهائياً في مرماه. انتهى أمره». لكن أليس ممكناً أن يسعى الجيش، الجريح في كرامته، إلى مسح العار؟ سؤال يفتح أبواباً ويتيح سرد بعض الأمثلة لتوضيح الصورة.
يمكن اعتبار أن الشعب التركي استفاق من سباته العميق بين أيدي الجيش بعد زلزال عام 1999. حينها، 37 ثانية كانت كافية لقتل 17 ألف شخص وتشريد نصف مليون آخرين في شمال غرب البلاد. شعر الأتراك وقتها بأنهم وحيدون في هذا العالم، وأنه لا بد لهم من بناء مجتمع مدني نشيط يتواصل مع العالم الخارجي.
وهنا تكمن قيمة رجب طيب أردوغان ورفاقه، على حدّ اعتراف تركي «لا يحب أردوغان»؛ فرئيس الحكومة تمكّن من أن يجعل للأتراك أصدقاء من غير الأتراك، على عكس القول المعروف في تركيا بأن «لا أصدقاء للأتراك سوى الأتراك». وكثيراً ما كان طلاب العلوم السياسية في جامعات هذا البلد يتعلّمون أنّ بلادهم «محاطة بالأعداء». إرث عثماني عزّزته الحرب الباردة وظروفها، وأدّى إلى تكريس العسكر مهندساً للسياسة الخارجية. حتى إنه كان على طلاب معظم الكليات أن يحضروا حصص «الأمن القومي» على أيدي جنرالات، إلى أن سادت نظرية «العدوّان ونصف العدو» (اليونان وسوريا وحزب العمال الكردستاني). هكذا كانت السياسة الخارجية التركية حتى مطلع الألفية الثالثة، مسيّرة وفق «عقدة الذئب». «نظرية» تقول إنّ على تركيا، كما الذئب، أن تمارس عدوانية لأنها مهدّدة بمصيرها ووحدة أراضيها. على هذا الأساس، بُني التحالف مع الغرب الأطلسي عقوداً. وعند سقوط جدار برلين، أصيب حكّام أنقرة بالرعب، لأنهم فقدوا مبرر هذا النوع من العلاقة مع الغرب الأطلسي، وهو الأمن.
اليوم، لم يعد لتركيا أعداء رسميّون. أعداء الخارج أصبحوا «أحبّاء». وفي الداخل، اجتاز العدو الحقيقي (حزب العمال الكردستاني) منتصف طريق «العودة من الجبال». إذاً، أصبح الجيش بلا عدوّ يبرّر له فعل ما يشاء بذريعة حماية البلاد.
وإلى جانب الهزائم الداخلية التي تلقّاها الجيش (فوز العدالة والتنمية، ومعركة الحجاب، والفشل في حلّ الحزب الحاكم، والعجز عن توقيف عجلة الإصلاحات)، مُني بخسائر تتعلّق بصلب وظيفته العسكرية: عارض خطة كوفي أنان عام 2004 لحل أزمة قبرص، لكن القبارصة الأتراك وافقوا عليها. رفض مفاوضة أكراد العراق، لكن المسيرة تواصلت، وانتهت إلى خواتيمها السعيدة. اقترح أن يتدخل عسكرياً أُحادياً في العراق عام 2007، ويثبّت وجوداً تركياً دائماً في شمال بلاد الرافدين، لكنه لم يلقَ آذاناً صاغية. ماذا سيفعل الجيش ما دام لم يعد قادراً، لا على إدارة الحياة السياسية، ولا على اختراع عدو خارجي؟ تجيب صحافية شبه مختصّة في أمور الجيش بأنه مطلوب أن يتحوّل إلى «جيش طبيعي، كما هي الحال في أي بلد في العالم». وتشير إلى أنه يمكنه أن يسهم جديّاً في الدبلوماسية التركية عبر «القوة الناعمة»، بما أنه يضمّ آلاف الاختصاصيين في جميع المجالات العلمية والمهنية: الطب والعلوم والهندسة والتربية والرياضة... يمكن هؤلاء أن يصبّوا عملهم في خانة الدبلوماسية بطريقة موسَّعة عمّا يحصل في أفغانستان، حيث تخوض تركيا «المعركة المدنية».
أما عن حظوظ أن يستوعب الجيش هذا التغيير، فتلفت الصحافية نفسها إلى أن أردوغان يؤدي «دوراً ذكيا»: لا يضغط على قائد الجيش إلكر باسبوغ لـ«تنظيف» مؤسسته من مخططي الانقلابات، بل يترك المهمة له، حتى وإن أخذ وقته في تلك المهمة الشاقة. شاقة بسبب كل ما نعرفه ونقرأه عن دور هذا الجيش، الذي أراده أتاتورك «كل شيء»؛ الخصم والحكم والميزان وضابط إيقاع الحياة السياسية. شاقّة لأنه يضم نحو مليون جندي (بالمناسبة، تضخُّم عدد عناصره من بين الأسباب التي تجعل من احتمال الانقلاب ضئيلاً، وخصوصاً أن آلاف الجنود صوّتوا في الانتخابات الأخيرة لمصلحة «العدالة والتنمية»). 800 ألف شخص يتهربون سنوياً من الخدمة العسكرية الإلزامية. جيش «يعيش على غسل الأدمغة»، إذ يحق للتركي الانتساب إلى الأكاديمية العسكرية من سنّ الـ 14. جيش لا يتحدث جنرالاته سوى بالتركية في المناسبات العامّة. ممنوع أن يكتب الجندي بيده اليسرى حفاظاً على الصورة الواحدة واللون الواحد. أمثلة لا تنتهي عن نموذج فاشيّ للجيش.
كلام كثير يُقال عن خفوت قوة الجيش وسطوته. لكن كل الكلام لا يحسم السؤال المركزي: ألا يمكن أن يقتل الذئب كل من يحيط به وينتحر بعدها، حين يحاصَر من جميع الجهات؟