مفاوضات صعبة بما أنّه «لا مكان للثقة بالصداقات التجاريّة وحدها»نيويورك ــ نزار عبود
سيكون الأسبوع المقبل صينياً بالنسبة إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما، مع جدول أعمال حافل في مختلف الملفات. سيطلب الكثير، وسيعاني أكثر لينال يداً صينية ممدودة، وذلك لأسباب كثيرة. مالياً، تعاني بكين ارتهانها لقيمة الدولار المتدهورة، وللشراكة التجارية الهائلة مع واشنطن، وهي صاحبة أكبر احتياطي نقدي «دولاري» في العالم.
أما سياسياً وأمنياً، فلا يسع الصين مساعدة الولايات المتحدة على حلّ معضلاتها النووية في كوريا الشمالية أو إيران وأفغانستان بالكامل، ما دامت السند الأكبر لتايوان.
غير أن التعاون في مجال البيئة والمناخ ممكن بين الطرفين، بعدما شددت الصين على حرصها على خفض نسبة انبعاث غازات الكربون في صناعتها. موضوع سيكون شديد الحماوة في قمة المناخ التي ستعقد في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن نهاية العام الجاري.
لكن لعبة الأمم القائمة على المصالح حصراً، لا تسمح بالتقديمات المجانية الصينية في المجالات الأخرى. فقد لا تلجأ الصين إلى استخدام سطوتها المالية لتقويض مركز الولايات المتحدة مالياً بسرعة، لأنها ترى أنها «معها في المركب نفسه». لكن القيادة «الشيوعية» لا تستطيع أيضاً تجاهل حقيقة أنّ واشنطن حاولت محاصرتها في مجال الطاقة منذ أوائل العقد الجاري، ونافستها على مجالها الاستراتيجي في شبه القارة الهندية وحاصرتها في استثماراتها الأفريقية، في السودان خصوصاً.
إذا ما واصلت الصين نموها يمكن أن تصبح عملتها جزءاً من نظام حقوق السحب الخاصة
أما عن المساعدة في الشأن الإيراني، فقد أظهرت الصين تجاوباً محدوداً ضمن إطار مجلس الأمن الدولي، ورفضت تشديد العقوبات على طهران في أكثر من مناسبة. حتى إنها طالبت بالحوار معها وإيجاد حلول تفاهمية. سلوك سببه أنّ «التنين الأصفر» لا يريد التفريط بالعلاقة الخاصة مع الجمهورية الإسلامية في مجال الطاقة، ما دامت بقية المصادر في الشرق الأوسط واقعة تحت السيطرة الغربية الكاملة.
أما على الصعيد المالي، وبالنسبة إلى بكين، فصحيح أن الأزمة المالية أفقدت الولايات المتحدة سطوتها النقدية المهيمنة على العالم، إلا أنها لا تزال تمارس نفوذاً سياسياً غير محدود على كل من اليابان (الأغنى شرقاً)، وألمانيا (الأقوى صناعياً والأكبر سكانياً في أوروبا). ولا تنسى الصين أن واشنطن لا تزال تتمتّع بثقل عسكري نوعي لا منافس له في المحيط الهادئ مع ذراع عسكرية «أطلسية» طويلة في آسيا والبلقان.
ولا يغيب عن بال الحكام الصينيين أنّ بلادهم باتت تمثّل الخصم الاستراتيجي الأول للنفوذ الأميركي في العالم، وبالتالي لا مكان كبيراً للثقة بالصداقات التجارية وحدها.
وتسعى الصين إلى الاستفادة القصوى من الوهن الاقتصادي الغربي، عن طريق شراء ما أمكن من شركات، على غرار ما فعل الاتحاد السوفياتي في الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما مرّ الغرب بالكساد العظيم. ظاهرة أدّت إلى قفز الاستثمارات الصينية المباشرة في الخارج إلى 56 مليار دولار خلال العام الجاري وحده، أي بقيمة تعادل أكثر من ضعفي ما كان عليه قبل عام فقط.
وفي المجال المالي والاقتصادي، ينتظر الغرب مشاركة الصين في بناء نظام نقدي بديل بعد تهالك نظام «بريتن وودز». لذلك، يراكم الصينيون ثروات تزيد على ألفي مليار دولار معظمها بالعملة الأميركية. حقيقة لا تمنعهم من أن ينوّعوا أصولهم، متّجهين نحو المواد الأولية من ذهب ونفط وعدد من المعادن الصناعية كالنحاس. كذلك ينوعون أسواقهم موجّهين بوصلتهم نحو أفريقيا وأميركا الجنوبية، فضلاً عن جيرانهم الآسيويين.
تسعى الصين إلى الاستفادة عن الوهن الاقتصادي الغربي من طريق شراء شركات غربية
ومن بين الحلول المتداولة حالياً، توسيع تجربة حقوق السحب الخاصة التي أصدر صندوق النقد الدولي منها 250 مليار دولار. ويرى كبار رجال المال في العالم، أن حقوق السحب تصلح لتعزيز النمو الاقتصادي عالمياً. فالفائدة عليها لا تزيد على نصف في المئة. وبفضل مخزون الصين من النقد والذهب، يمكنها نيل أصوات قوية في صندوق النقد الدولي.
وإذا ما واصلت الصين نموها بالوتيرة نفسها، يمكن أن تصبح عملتها «الرنمنبي» جزءاً من تركيبة نظام حقوق السحب الخاصة هذه، وإن كانت لا تزال غير متاحة للتحويل. ولو استطاع أوباما إقناع الصينيين بذلك، لانتزع مكاسب منهم، وجعل من بكين «شريك الضرورة» في عملية بناء الكيان المالي المنقذ، الذي قد يستوعب أيضاً «الريال» البرازيلي.
لم تحدّد الولايات المتحدة حتى الآن موقفها بوضوح من مسألة النظام المالي الجديد المتعدد الأطراف. وإذا بقيت مترددة طويلاً، يُعتقد أن تجد الدول نفسها مضطرة للمضي بعيداً في العلاقات الثنائية على غرار تجربة المقاصة الصينية مع كل من الأرجنتين والبرازيل.
وهنا تبرز مشكلة عند الطرف الصيني، إذ إن الوضع الداخلي ليس منضبطاً كلياً، وقد لا يُسمح للقيادة بالانهماك بالشؤون الاقتصادية الدولية قبل حلّ المشاكل الاجتماعية الكثيرة الناشئة، وفي مقدمتها ملامح الانفجار الداخلي من خلال تمرد الأقليات في عدة أقاليم، مع ضمور النمو الاقتصادي في بعض المناطق. كذلك هناك جيل من القيادة الهرمة التي تستعد للخروج إلى التقاعد في السنوات الثلاث المقبلة لتحلّ محلها قيادات جديدة يتعين عليها التوفيق بين فكرين متناقضين.


سيتعين على الرئيس باراك أوباما التفاوض من موقع الضعف مع الصين، ما دامت بلاده عاجزة عن منافستها تجارياً وصناعياً. ومن شأن المعادلة القائمة على استمرار هبوط قيمة الدولار، إذا لم تنتعش الصادرات الأميركية، إشعال حريق الغلاء عالمياً. وهذا بدوره قد يجبر المصارف المركزية على رفع الفوائد بسرعة قد تؤدي إلى إجهاض النمو. عندها سيواجه العالم مأزقاً مشابهاً لما جرى في السبعينيات: بطالة مزمنة متفشية مع غلاء فاحش، واضطرابات اجتماعية يصعب ضبطها.