مهما اجتهدت المؤسّسات الغربيّة لترويض ما تسمّيه الفكر الإسلامي المتطرّف ونزع الشرعيّة عن أجنحته المسلّحة وفكّ ارتباطه بالحاضنة الشعبية، فإن محاولاتها ستبوء بالفشل، ما دامت عاجزة حتى اللحظة عن حلّ القضية المركزية التي ترفع هذه الحركات لواءها، وتستقطب حولها الجماهير الإسلامية، وهي قضية تدبُّ الحياة في هذا الفكر عند كل اعتداء عليها
شهيرة سلّوم
في صراعها مع الاتحاد السوفياتي، اعتمدت الولايات المتحدة على العامل الإيديولوجي، فصوّرت الفكر الشيوعي على أنه عدوّ العالم الحرّ ومثال الرجعية والدكتاتورية؛ سقط الاتحاد السوفياتي وانهارت معه المنظومة الاشتراكية، وكان لا بد من إيجاد العدوّ البديل؛ وبما أنّ غالبية مشاريع التوسع الاستعمارية كانت في أرض المسلمين، أصبح العدوّ هو «الإسلام»، الذي يقرّ بالحرية الاقتصادية، مثله مثل الفكر الرأسمالي، فكان أن اعتُبر خطره في «التخلّف» و«انتهاكه للحريات» التي قام عليها «العالم الحر».
وبما أن الحرب الإيديولوجية ضدّ الإسلام كلّه مصيرها الفشل الحتمي، وبما أن ليس من مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها أن تجيّش ضدها عالماً إسلامياً يحتضن أكثر من ربع سكان الكرة الأرضية ودولاً تتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي لا يمكن الهيمنة الأميركية أن تمر إلا عبرها، فقد اختارت شن حربها على جزء من هذا الإسلام، المتطرّف منه.وعليه، أصبح الإسلام الأصولي مولّد الإرهاب والعدوّ المشترك للعالم الحرّ والدول الإسلامية المعتدلة والحليفة، علماً بأنه كان بالنسبة إليها نعمة وسنداً يوم كانت تقاتل السوفيات. وإلى جانب الحروب الميدانية التي تُخاض ضدّ الأذرع المسلّحة لهذه الأصولية، تجري معركة إيديولوجية ضروس، في فلسطين ولبنان والعراق واليمن والسعودية والصومال وموريتانيا والعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها. وغالباً ما تكون حكومات هذه الدول طرفاً في المعركة. أدوات هذه الحرب علماء اجتماعيون ومناهج تربوية ورجال دين وفتاوى ووسائل إعلام ومواقع إلكترونية.
وبالنسبة إلى الغرب، فإن هذه المعركة تجري في الداخل والخارج، وتستهدف اثنين: المتطرفون الذين طالت هجماتهم أراضي أوروبا والولايات المتحدة، حيث انتشروا وما عاد بالإمكان تمييزهم. وحاضنتهم الشعبية التي تؤمن لهم الملجأ والحماية وتؤدي دور الخزّان البشري على ما يظهره نموذجاً أفغانستان وباكستان.

في الداخل

تنشغل أجهزة الأمن الغربية في رصد وملاحقة ومعالجة ظاهرة التطرّف داخل مجتمعاتها. وقد كثفت عملها بعد كل اعتداء كانت تتعرض له واكتشفت كيف تصبح المجموعات الجهادية أكثر ديناميكية ورشاقةً وانتشاراً، وتتوحد كي تصيب أهدافاً معينة.
فعلى عكس الجيل القديم من «القاعدة»، هذه المجموعات محلية ومستقلة «ومتأصّلة ذاتياً»، وهي خلايا جهادية غير مسيطر عليها من وراء البحار، كما أنها تعتمد على الفضاء الافتراضي من أجل التدريب وإطلاق العمليات.
وتلك الخلايا «المستقلة» تتشابه في معظم الدول الغربية التي لحظت أجهزة استخباراتها انخفاضاً في سن المنضوين في صفوفها: مراهقون لا سجلات إجرامية لهم.
وتظهر أحياناً إشارات إلى انخراط «المراهق الساخط» في إحدى المجموعات الجهادية، كما في حال منفذ اعتداء ديترويت الفاشل، عمر فاروق عبد المطلب، الذي أظهر ميلاً إلى التطرف وسخطاً عما حوله.
لكن هناك ظاهرة أشدّ خطورة: يتحدث خبراء في مكافحة الإرهاب عن شكل جديد يظهر فيه بعض هؤلاء «المجاهدين» كي يصعب تمييزهم، بحيث ينخرطون في المجتمع الغربي، فلا تُبان أي ملامح متطرفة عليهم؛ حياة بذخ ومجون وارتياد للملاهي الليلية ومعاقرة الخمر وتعاطي الحبوب المخدرة ومعاشرة النساء.
وفي محاولة منها لاحتواء هذه الظاهرة، سعت الحكومات الغربية في أعقاب أحداث 11 أيلول إلى أن تتواصل مع المجموعات الإسلامية فيها والقيمين عليها من مؤسسات وفاعليات ورجال دين. على سبيل المثال، بعد تفجيرات مدريد 2004، اجتمعت الشرطة الإسبانية مع المئات من رجال الدين طلباً لمساعدتهم في مكافحة الإرهاب. وعلى منوالها سار العديد من الدول، رغم أن القوانين التي تُفرض كحظر الحجاب والبرقع أو البوركيني، من شأنه أن يُثير ردّة فعل سلبية على جهود مكافحة التطرّف، حسبما يرى مراقبون.

في الخارج

أما في خارج المجتمعات الغربية، فتنقسم المواجهة الفكرية بين المناطق الساخنة، حيث تُخاض المعركة العسكرية، وباقي العالم الإسلامي. في أماكن النزاع، يُعتمد على العلوم الاجتماعية مثل الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا (يرتكزان على التاريخ وعلم الآثار وعلم الاجتماع وعلم النفس) لدراسة المجموعات البشرية بمختلف مكوناتها البيئية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تكوين مفهوم واضح عن الشعوب المراد غزوها وإيجاد لسان حال مشترك لمخاطبتها قبل ترويضها وتغيير رغبتها وثنيها عن المقاومة، وتقديم صورة للغازي أو المحتل على أنه منقذ. وهذا النوع من الأسلحة ليس جديداً في عالم الحروب، رغم بروزه الحاد في الآونة الأخيرة؛ فقد استخدمته القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر، كما لجأ إليه الجيش الأميركي في منتصف ستينيات القرن الماضي مع تشيلي.
وهذا ما يعبر عنه بوضوح روبرتو آلبرو، الأستاذ المساعد الزائر للأنثروبولوجيا والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن. يقول إن «لعلماء الأنثروبولوجيا تاريخاً من التعاون مع الجيش الأميركي».
وعملياً، بدأ الجيش الأميركي برنامجاً تجريبياً في 2007 من أجل توفير فهم أفضل لجنوده بشأن الأمور الثقافية الحساسة في العراق وأفغانستان. وأُطلق على البرنامج تسمية «نظام التضاريس الإنسانية»، وهو يدمج علماء الأنتروبولجيا والاجتماع في عمل الجيش الأميركي لتزويد الجنود بقرائن محلية حيوية تعينهم على تكييف وضع عملياتهم. لكن هذا البرنامج لقي معارضة من علماء الأنتروبولوجيا أنفسهم على أساس أن الاشتراك مع القوات القتالية قد يؤدي الى انتهاك المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه هذا العلم، وهو عدم إيقاع الضرر.
على خط مواز، ضغطت الولايات المتحدة على الدول الإسلامية الحليفة لها لنشر «ثقافة الاعتدال» من أجل مواجهة الفكر المتطرف، عبر الرصد والملاحقة والمعالجة عن طريق البرامج التأهيلية التي تطبقها الدول الخليجية لهذا الغرض (كالبرنامج السعودي). وعبر تعميم نموذج أكثر تسامحاً للإسلام عن طريق تعديل المناهج التعليمية والتربوية في المدارس، بحيث تُحذف أي فقرات قد تشجع على «التطرف الديني». ناهيك طبعاً عن الحملات الإعلامية الواسعة ضدّ التطرّف، كحملة «الإرهاب لا دين له»، وفتاوى رجال الدين في تحريم قتل المدنيين.
كذلك سعت الحكومات الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، إلى دعم نماذج إسلامية معتدلة والسعي إلى تعميمها، على غرار ما فعلت، ولا تزال، مع تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، التي تريدها بديلاً من النموذج الوهابي السعودي الذي كان تربة خصبة لولادة المتطرفين.

فشلٌ

اعتمد الأميركيون على برامج «الدبلوماسية العامة» من أجل التصدي للفكر المتطرّف لـ«القاعدة» وتحجيم «الأفكار الإرهابية»، لكن اتضح لهم بعد تجارب متلاحقة أن هذه البرامج فاشلة، وأنهم يفتقرون إلى استراتيجية موضوعية من أجل التصدي للمنظومة الفكرية التي تغذّي نمو المجموعات الجهادية.

أولت إدارة باراك أوباما اهتماماً خاصاً للتخاطب مع العالم الإسلامي في إطار الدبلوماسية الناعمة

«المجاهدون» في الغرب يرتادون الملاهي الليليّة ويعاقرون الخمر ويعاشرون النساء

وعملت واشنطن على صياغة استراتيجية وإعداد خطط وبرامج لحرب الأفكار، مثل محاولة لجنة الأمن القومي في مجلس النواب عام 2002 التي أنشأت لجنتين فرعيّتين، الأولى لـ«التواصل الاستراتيجي» والثانية لـ«استراتيجية المعلومات»، فكان مصيرهما الفشل. ثم أنشئت لجنة تنسيق «سياسة البلوغ» إلى العالم الإسلامي، التي صاغت خطة لم تطبّق أبداً، قبل أن تُستبدل بمجموعة «هيوغ»، لكنها كانت «بنفس الأشخاص القدامى، وإنما باسم جديد».
ثم عادت وأولت إدارة باراك أوباما اهتماماً خاصاً للتخاطب مع العالم الإسلامي كجزء من حربها على «الإرهاب»، في إطار الدبلوماسية الناعمة التي أراد الرئيس الجديد اعتمادها كبديل من دبلوماسية القوة لتوسيع نفوذ واشنطن. دبلوماسية بدأها بانطلاقة قوية، متحدثاً عن أهمية الحوار وقيم «الاحترام المتبادل»، وعارضاً نفسه «كمستمع» لهذا العالم.
واختار القاهرة كي يتوجه إلى العالم الإسلامي في خطاب أكد فيه طلاقه مع إدارة سلفه، وعرض «بداية جديدة»، ثم تابع غزله للعالم الإسلامي من تركيا بخطاب ثانٍ.
لكنه عملياً، أقرّ استراتيجية جديدة لتعزيز قتاله في أفغانستان حيث زاد عديد القوات بالآلاف وشن عملية عسكرية واسعة على معاقل طالبان بدأها في هلمند قبل أن تنتقل إلى قندهار. كما قام بتغطية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وحافظ على الانحياز الأميركي لإسرائيل التي لا يتوانى مساعدوه عن التأكيد ليل نهار التزام الولايات المتحدة بأمنها، وذلك رغم إدراكه (واعتراف نائبه جوزف بايدن) أن هذا الانحياز هو السبب الرئيس في معاداة العالم الإسلامي لواشنطن، بل يؤدي إلى «فقدان حياة أميركيين في العراق وأفغانستان».
انحياز يؤكد الإمعان فيه أن الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، لن ينجح في سحب بساط الشرعية عن الحركات المتطرفة وفي ربح معركة «كسب القلوب والعقول».


انتقاد منظر الفكر الجهادي

أكبر انتكاسة يمكن أن تُصيب فكر «القاعدة» هي أن يأتي الانتقاد من منظّر الجهاديين السيد إمام عبد العزيز الشريف (الدكتور فضل) الذي نزع الشرعية الدينية عن عمل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. كذلك انتقد الجماعات الإسلامية الأخرى كحركة «حماس»، حاملاً على تصرفاتها إبان العدوان الإسرائيلي على غزة، وشبّه ما قامت به بـ«قميص عثمان». كتب «مع بداية مأساة غزة، طالب قادة حماس أهالي غزة بالصبر والثأر، وأنهم لن يستسلموا ولو أبيدت غزة كلها. وهذا الكلام ليس له أي صلة بدين الإسلام. فلا يجوز إجبار الناس على ما لا طاقة لهم به، ثم توزيع الاتهامات بأن هذا خان القضية، وبأن ذاك باعها».
ومضى يقول إن «بن لادن وحزبه رفعوا أيضاً قميص الجهاد ومحاربة أميركا وإسرائيل، واتهموا كل من ينتقدهم بأنه يضر بالجهاد ويعمل لمصلحة أميركا». يضيف إن «القاعدة» لم يستند إلى منهج فكري عند تأسيسه، ويحاول أن يستمد شرعيته من خلال محاربة أميركا وإسرائيل.