روسيا وقضايا المنطقة (4/4)ربى أبو عمو
تبدو روسيا كأنها تسير على موجات غير ثابتة في مواقفها حيال الانتهاء من تشغيل محطة بوشهر النووية. ويعلن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين للولايات المتحدة أن بلاده قد توافق على فرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي. في المقابل، طهران هي حليفة موسكو في الشرق الأوسط. تناقض يحكم العلاقة بين البلدين، ترسمه روسيا وفق ما يناسب مصالحها، رغم أن الأولوية تبقى «للشيطان الأكبر».
لم يكن الاتحاد السوفياتي، باستثناء نهاية عهد ميخائيل غورباتشيف، على علاقة جيدة مع إيران، منذ عهد الشاه حتى الثورة الإسلامية. إلا أن روسيا خرقت هذا الفتور أو العداوة، نحو شراكة ثنائية.
بعد 64 عاماً على زيارة الزعيم السوفياتي جوزف ستالين لإيران، كان بوتين أول رئيس روسي تطأ قدماه هذا البلد، لحضور مؤتمر قمة الدول الخمس المطلّة على بحر قزوين في عام 2007. حضور مثّل تطوراً مهماًً في العلاقات بين البلدين، التي بدأت تأخذ طابعها الثنائي منذ نهاية عهد غورباتشيف. هذه الزيارة لا شك في أنها أغضبت الولايات المتحدة.
بدت روسيا كأنها تعترف بشرعية دولة تسعى إلى امتلاك القنبلة النووية، متحدية قرارات مجلس الأمن. اختفت الأيديولوجيا وحلّت مكانها البراغماتية. سياسة مكّنت روسيا من عدم الاكتراث لكون إيران أحد «محاور الشر».
خلافات على مياه بحر قزوين وتردّد في شأن مفاعل بوشهر وصواريخ «أس 300»
تقوم سياسة روسيا الحالية على الاصطياد في مياه مصالحها. يجمعها مع إيران ما كتبه السير هالفورد ماكيندر في مطلع القرن الماضي بعنوان «الدعامة الجغرافية للتاريخ». وحين تعدّ إيران أحد أضخم أسواق السلاح الروسي، تصبح الشراكة أساساً. أمرٌ شرحه أحد رجالات وزارة الدفاع الروسية الرفيعي المستوى، ليونيد إيفاشوف، حين قال إن «مصالح الأمن القومي الروسي لا تعتمد على العلاقة مع الولايات المتحدة بقدر ما تعتمد على علاقة روسيا بجيرانها». وزاد رئيس الوزراء الأسبق يفغيني بريماكوف عليه: «صحيح أن روسيا تميل اليوم نحو أميركا وتعلن رغبتها في التعاون مع الغرب، إلا أنه لا يجوز أن ننسى ما قاله القيصر نيكولاي الثاني عن أن روسيا ليس لها أصدقاء في الغرب، وأن إيران جارتنا الأبدية في الجنوب».
هكذا بدا انفتاح روسيا على إيران ترجمة عملية لهاتين النظريتين. فهما البلدان اللذان تجمعهما قواسم جيوبوليتيكة، في مقدّمها المصالح المشتركة في بحر قزوين ومنطقة القوقاز الغنية، والحدّ من التأثير التركي في جمهوريات آسيا الوسطى، إضافة إلى المردود المادي الهائل الذي تدرّه مبيعات الأسلحة والتكنولوجيا النووية المتطورة لإيران (بلغ مجموع العقود المُعدّة بين روسيا وإيران في مجال الدفاع فقط 7 مليارات دولار).
شراكة كهذه لم تكن لتحصل قبل سنوات، حين كانت إيران في عهد الشاه حليفاً أساسياً للولايات المتحدة، ووقفت إلى جانبها في السعي إلى احتواء الاتحاد السوفياتي. واستمر العداء حتى بعد الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979، حين دعم السوفيات العراق ومدّوه بالسلاح في الحرب العراقية الإيرانية بين عامي 1980 و1988، إلى أن انهار الاتحاد. وخلال هذه المرحلة، بدأ غورباتشيف يشق الطريق نحو علاقة مع إيران، وخصوصاً أن الأخيرة كانت بحاجة إلى السلاح ولم تعد أميركا حليفة، قبل أن تفاجئ موسكو العالم في عام 1992، بحلولها محل شركة «سيمنز» الألمانية في بناء مفاعل بوشهر النووي.
وتتابع تحسن العلاقات مع الولاية الثانية لبوتين في عام 2005، حين وقّع البلدان عقداً بقيمة 1.7 مليار دولار، تحصل بمقتضاه إيران على أسلحة من مختلف الأنواع.
تنظر روسيا إلى إيران باعتبارها قوة إقليمية يمكن أن تسيطر على منطقة الخليج العربي. وأسهمت الشراكة الإيرانية مع كل من أرمينيا وروسيا في الحدّ من النفوذ الأميركي في المنطقة، من خلال علاقاتها مع تركيا وجورجيا وآذربيجان وأوزبكستان.
كذلك نجحت الشراكة الروسية ـــــ الإيرانية في إنهاء خمسة أعوام من الحرب الأهلية في طاجيكستان في عام 1997. وحققت إيران تقدماً كبيراً في توسيع العلاقات مع الحكومة الطاجيكية، بما في ذلك التعاون الدفاعي ونقل المعدات العسكرية الإيرانية إليها.
وإزاء هذه الشراكة، بادر الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى الاعتراف بمعاهدتي عامي 1921 و1941 (السماح للقوات السوفياتية بإرسال قوات إلى إيران متى شعرت موسكو بأنها مهددة من وجود قوة ثالثة) الملغاتين واعتبارهما ساريتين.
إلا أن هذا لا يلغي وجود عدد من المسائل العالقة بين البلدين. فقد أعلن بوتين أن بلاده «تريد التوصل إلى حل مع إيران بشأن اقتسام ثروات بحر قزوين الغني بالنفط والغاز»، فيما ترفض إيران نسبة الــ11 في المئة التي تودّ روسيا منحها إياها، وتعدّها حصة غير عادلة مقارنة بالنسبة المقررة لها وفقاً لمعاهدة 1940، التي نصّت على منح طهران 50 في المئة من ثروات هذا البحر.
إلّا أن هذه النقطة تبقى أسيرة التفاوض. ويضاف إلى ذلك التردّد الروسي في تشغيل محطة بوشهر وإتمام صفقة صواريخ «أس ـــــ 300»، ومعهما المراوغة الروسية في مسألة العقوبات.
تبدو إيران عالقة بين شيطانين. الشيطان الأكبر الأميركي والشيطان الأصغر الروسي، وهو اللقب الذي أطلقه آية الله الخميني على الاتحاد السوفياتي حين غزا أفغانستان. صحيح أنها عفت عن ذلك الأصغر، الذي ضمّها إلى الدول الحليفة، إلّا أنها بقيت عالقة معه في شيطان التفاصيل.
هناك من يختصر السياسة الروسية حيال إيران بالآتي: لا لإيران نووية ولا لإيران حليفة للغرب. المطلوب من وجهة نظر موسكو الحفاظ على الوضع القائم (أي إيران بطموحات نووية على عداوة مع الغرب). صدقية هذه المعادلة رهن الأسابيع والأشهر المقبلة.