تستعدّ تركيا لخلع ثوبها العسكري الذي غلّف ديموقراطيتها وعلمانيتها منذ عام 1923. فقد أصبح جائزاً، اليوم، القول إنّها في طريقها إلى أن تكون جمهورية مدنية مع طرح الحكومة مشروع تعديل دستوري، سيخضع لتصويت النواب في أواخر الشهر الجاري، وسينقل البلاد، إذا نال ثقة الشعب في استفتاء مرجَّح، من مرحلة الحكم شبه العسكري، إلى نموذج أقرب إلى المعايير الأوروبية
أرنست خوري
حان وقت الحصاد بالنسبة إلى حكومة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا. آن أوان طي صفحة دستور عام 1982، الذي وضعه انقلابيو عام 1980، وإن كان ذلك على شكل تعديل دستوري واسع النطاق، لا دستور جديد مئة في المئة.
فقد طرحت حكومة رجب طيب أردوغان، رسمياً، مسوّدة تعديل دستوري ظلّ أهم أهدافها منذ عام 2002، وانتظرت طويلاً التوقيت المناسب لطرحه من دون خوف، لا من عدم استعداد الشعب لتقبّله، ولا من غدر جنرالات الجيش والأحزاب المساندة له.
لكنّ التعديل المذكور، الذي تشير معظم التقديرات إلى أنه سيمرّ في استفتاء شعبي بغالبية لا بأس بها، ليس وليد الصدفة، بل هو تتويج لمسيرة إصلاحات مررتها الحكومة بالتقسيط منذ ثماني سنوات. إصلاحات أُقرَّت من دون ضجة، وطاولت صلاحيات العسكر (التعديلات على نظام مجلس الأمن القومي وإلغاء «بروتوكول التعاون للأمن والانتظام العام»، وإخضاع موازنة الجيش لرقابة الحكومة والبرلمان)، والحريات الفردية والجماعية (قضية الحجاب والانفتاح على الأقليات).
تعقيد حظر الأحزاب وإعادة هيكلة المحكمة الدستورية والهيئة العليا للقضاة
لكن في كل المراحل، كان هناك حاجز هائل أمام جهود الحكومة، يتمثل في أنّ الدستور المعمول به أشبه بدستور عسكري، يعوق المشاريع الداخلية للحكومة، كما الخارجية منها، وتحديداً مساعيها لنيل العضوية في الاتحاد الأوروبي. وفي كل مرّة كان أردوغان وفريق عمله يواجهون فيها المتاعب في صراعهم مع الجيش والمؤسسات والأحزاب الموالية له، كانوا يعدون بحلّ كل المشاكل، فور إقرار دستور جديد بعد أول انتخابات تشريعية. لكن كان هناك ما يكفي من المشاكل بعد كل اقتراع، ما كان يؤدي إلى تأجيل «المشروع الكبير». لكنّ توقيتاً مناسباً ظهر للمجموعة الحاكمة منذ افتضاح أمر عصابات «إرغينيكون»، وتورط عدد كبير من قادة الجيش في مخططاتها؛ انكسرت شوكة العسكر، وكثير من الضباط في طريقهم إلى قاعات المحكمة، بالتزامن مع بقاء شعبية الحزب الحاكم قياسية، في مقابل انخفاض درجة ثقة الشعب بالمؤسسة العسكرية الأم. عوامل عديدة جعلت من احتمالات انقلاب عسكري شبه معدومة، ما شجّع أردوغان على عدم انتظار انتخابات 2011 للعيش في كنف دستور مدني يليق بتركيا المتصاعدة قوتها دبلوماسياً واقتصادياً.
ولعلمه أنّ طرح دستور جديد بالكامل، قد يحمل محاذير يفضَّل تفاديها حالياً، قرر أردوغان الاستعاضة عن ذلك بطرح تعديل دستوري واسع النطاق، هو عبارة عن رزمة إصلاحات قُدمت أول من أمس، وتتضمّن تعديلات على 23 مادة دستورية، وحذفاً كاملاً للمادة 15 التي تحرّم محاكمة منفذي انقلاب عام 1980، وإضافة 3 بنود مؤقتة جديدة. وتظهر النية الحاسمة لحكومة أردوغان، في واقع أنّ مشروع التعديل يفرض التصويت إيجاباً أو سلباً على الرزمة كاملة، لا على كل بند على حدة، فإما يُرفَض التعديل كاملاً، أو يُقبَل كاملاً.
وتتضمن الرزمة مجموعة مهمّة جداً من العناوين الحسّاسة من ناحية تقليم أظافر العسكر في الحياة السياسية للبلاد. وأبرز ما تنص عليه، هو تعقيد عملية حظر الأحزاب، وتشريع محاكمة أفراد السلك العسكري أمام محاكم مدنية، وإعادة هيكلة كل من المحكمة الدستورية والهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين، بطريقة لا تبقيان معها خاضعتين لسلطة العسكر والعلمانيين المتشددين، وإلغاء حظر ارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات الحكومية، إضافةً إلى مغازلة المطالب الأوروبية العديدة المتعلقة بالحريات وبمبادئ الإدارة الحديثة وحقوق النساء والأطفال.
سيصوت البرلمان عليه آخر الشهر الجاري ويُتوقَّع طرحه على الاستفتاء إذ يُرجّح أن ينال الثقة
وبالنسبة إلى المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، ينص التعديل على تغيير بنيته وصلاحياته تغييراً كاملاً، إذ سيرتفع عدد أعضائه من 7 حالياً، إلى 21 (و10 أعضاء رديفين)، يرأسه وزير العدل ويكون نائب الوزير عضواً حكمياً فيه. وتنبع قيمة التعديل من أنّ 4 من أعضائه سيعيّنهم رئيس الجمهورية، والعدد الباقي تعيّنه أو تنتخبه مجموعة الأجهزة القضائية (المحكمة الدستورية ومجلس شورى الدولة ومحاكم الاستئناف والتمييز...)، بطريقة لا تكون لأي جهاز سيطرة كاملة عليه. إضافةً إلى ذلك، ستكون قراراته خاضعة لمناقشات هيئات قضائية عديدة ويمكن استئنافها. هكذا، فإنّ المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين سيصبح، وفق التعديل الجديد، شبيهاً بنظيره في كل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، على حد تعبير وزير العدل سعد الله إرغن.
وبالنسبة إلى حظر الأحزاب، فإنّ الآلية ستصبح أكثر تعقيداً، بما أنّه سيصبح ممكناً حظر الأحزاب فقط إذا حرّضت على استخدام العنف وشجعت الإرهاب. كما ستكون هذه القضية مُناطة بالبرلمان أكثر من المحكمة الدستورية. وفي حال حظر حزب ما، وفق الشروط الجديدة، فإنّ عضوية نوابه في البرلمان لن تسقط إلّا بانتهاء الولاية التشريعية لمجلس النواب (4 سنوات)، والمنع من ممارسة العمل السياسي سيكون لثلاث سنوات لا خمس. كما أنيطت مراقبة أموال الأحزاب بمحكمة الحسابات (ديوان المحاسبة لا المحكمة الدستورية).
وبرّر الوزير إرغن واقع أن التعديلات تستهدف أساساً صلاحيات الجهاز القضائي، بالقول إن الأخير يمارس صلاحيات أقوى من تلك التي تتمتع بها السلطة التشريعية، «والقرارات الأخيرة التي اتخذها قضاة أضرّت بالتطور الديموقراطي في البلاد». ووفق إرغن، فإنّ هذه التعديلات هي «الحد الأدنى المطلوب التي يمكننا من خلاله مفاوضة الاتحاد الأوروبي».
وفي ما يتعلق بالمحكمة الدستورية، فإنّ عدد أعضائها سيصبح 19 بدلاً من 11 حالياً، بينهم 16 يعيّنهم رئيس الجمهورية، والثلاثة الآخرون ينتخبهم البرلمان، كما أنها ستفقد الكثير من الصلاحيات التي لطالما جعلتها «محكمة فوق العادة». ودفعت هذه التعديلات، عضو المحكمة الدستورية القاضي حسن غرشكر إلى اعتبار أنّ «الحكومة تحاول تسييس القضاء وإخضاعه لسلطتها من خلال فرض تعيين البرلمان عدداً من أعضائه». هذا إضافة إلى الرفض المطلق الذي واجه به رئيس المحكمة، حازم كيليش، مشروع التعديل.
وفي السياق، ينص التعديل الدستوري على انتزاع عدد من الصلاحيات المطلقة لـ «المجلس العسكري الأعلى»، الذي ستصبح قراراته عرضة للنقض أمام القضاء. ومن هنا، ستصبح محاكمة أفراد السلك العسكري أمام القضاء المدني أمراً عادياً.
وأخيراً، سينتهي العمل بالمادة العاشرة الشهيرة التي كانت تحظر ارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات الحكومية، علماً بأنه سبق للبرلمان أن ألغى حظر ارتداء الحجاب عندما جرى تعديل هذه المادة عام 2008، لكن المحكمة الدستورية عادت لتلغي التعديل آنذاك.
طبعاً، وُوجه مشروع التعديل باتهامات تفيد بأنه يُضعف درجة علمانية النظام التركي، إذ إنّ أردوغان «يحاول أن يجعل تركيا أشبه بإيران»، وفق ما نقلته صحيفة «حرييت» عن خصومه، بينما هو يحاول أن «يجعلها أقرب إلى الدول الأوروبية»، على حد وصف صحيفة «توداي زمان».
قدّمت الحكومة نص التعديل إلى الأحزاب السياسية التركية الممثلة في البرلمان وغير الممثلة فيه أيضاً، وقررت عرض المشروع على المنظمات الأهلية والشعبية والمثقفين حتى آخر الشهر الجاري، ليطرح عندها على التصويت في مجلس النواب. لكن يرجَّح أن يُطرَح التعديل الدستوري على الاستفتاء الشعبي، بما أنّ أحزاب المعارضة العلمانية لن تدعمه. فالحزب الحاكم يملك 337 نائباً من أصل 550، بينما يتطلّب إقرار التعديل في البرلمان 367 صوتاً (غالبية الثلثين). فحتى لو دعمه حزب الأكراد، «السلام والديموقراطية» (20 مقعداً)، وحزب اليسار الديموقراطي (6 مقاعد)، فهذا لن يكون كافياً لإقراره، علماً بأنّ 330 صوتاً تكفي لإحالته على الاستفتاء الشعبي.
حلا لأردوغان جسّ نبض الشارع إزاء التعديل الدستوري، فجاءته النتيجة إيجابية؛ وبموجب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «بولمارك»، وسُلِّمَت نتائجه إلى أردوغان أولاً، يريد 58 في المئة من المستطلعين (العينة تتألف من 5039 شخصاً)، دستوراً مدنياً جديداً، في مقابل 20 في المئة رفضوا التعديل. وقال 41.5 في المئة إنهم سيجيبون بـ«نعم» إذا طُرحَت النسخة التي تقدمت بها حكومة «العدالة والتنمية» على الاستفتاء الشعبي، فيما أشار 28.2 في المئة إلى أنهم سيقرّرون وفق ما يتضمنه التعديل المطروح، وفقط 13.8 في المئة جاهروا برفضهم اقتراح الحكومة.
وتُعدّ هذه النسبة مرتفعة مقارنةً بالاستطلاعات السابقة. وبدا أنّ المحاكمات المرتبطة بملف «إرغينيكون»، ومعركة القضاة الأخيرة، والفضائح المتتالية التي أظهرت تورط الجيش في مؤامرات اغتيال وانقلابات، أدّت دوراً مركزياً في حشد التأييد الشعبي للإصلاحات. وأبرز دليل على ذلك، هو أنّ استطلاع الرأي نفسه تضمن سؤالاً عن «هوية المؤسسة الحكومية الأنجح في تركيا»، فجاءت النتيجة أكثر من مفاجئة، حيث إنّ 64.3 في المئة أجابوا بأنها الشرطة الوطنية (التي تتولى مهمة إلقاء القبض على المتهمين بقضايا إرغينيكون)، لا الجيش الذي لم ينل تأييد سوى 60.4، تلته رئاسة الجمهورية بـ 51.3 في المئة. ولا بدّ أن أردوغان، فرح للغاية بالنتائج، بما أنه عُدّ بموجبه، أبرز شخصية سياسية في البلاد مع 30.6 في المئة من الإجابات، مع بُعد شاسع عن أول منافسيه، وهو زعيم حزب «الحركة القومية» اليميني المتطرف، دولت بهشلي، الذي لم ينل سوى تأييد 5.1 في المئة. أما الخطورة، فتكمن في واقع أنّ مَن سبق أردوغان من ناحية نيل إعجاب الأتراك، هو «اللا أحد»، بعدما أكد 38 في المئة من المستطلعين أنّ أياً من السياسيين لا يعجبهم.


«أمبودسمان» وحقوق