فرضت أزمة اللاجئين نفسها على أجندة الحكام الأوروبيين، لتتشعّب إلى مختلف مفاصل الحياة. خطط الاستيعاب لم تُفلح بعد، بل أحدثت شرخاً بين بعض الدول وأظهرت عجزاً عن مواجهة الوضع المستجد. السبل أصبحت مليئة بإصرار على حياة، صوت اللجوء علا فوق كل شيء، أحدث جلبة في الداخل الأوروبي، وسُمع «صدىً» على الجهة الأخرى من الأطلسي.
هناك، تحديداً في الولايات المتحدة، وقْع الأزمة ما زال طفيفاً، يقتصر على نقاش بشأن استقبال عدد قليل، قوامه 10 آلاف لاجئ سوري، مع بداية العام الجديد، ليتحوّل إلى مادة سجال لا تقلّ حدّة عن السجالات الأخرى، التي تحفل بها الحياة السياسية والإعلامية.
على هاتين الجبهتين ــ السياسية والإعلامية ــ الأوتار التي يمكن اللعب عليها كثيرة، يلامس بعضها هواجس أمنية وأخرى اجتماعية وغيرها قانونية. وإن احتدم الجدل، انطلاقاً من دوافع إنسانية، لكنّه في سياقات أخرى يتعدى الظاهر، ليكشف عن محرّك للبحث عن دور لواشنطن في الحدث، لا يقل أهمية عن الدور العسكري في ميادين ومناسبات أخرى. المتعارف عليه، عموماً، هو أنّ على «الولايات المتحدة أن تفعل شيئاً»، قد يقتصر على التنظير، أو يتعداه إلى التدخل الذي يُنتج آثاراً سلبية، وربما إيجابية في حالات قليلة. في الحالة السورية، هناك من يرى الموقف الأميركي معكوساً، ذلك أن التدخل على المستوى الإنساني يأتي نتيجة آخر عسكري، ما زال بالنسبة إلى البعض غير مرئي أو غير واضح، كما كان في العراق أو أفغانستان أو فييتنام... فمن يدخل ضمن هذا التيار، لا ينظر إلى سوريا على أنها مشكلة أميركية، بل يرى أن «للولايات المتحدة حضوراً أقل هناك... أي بمعنى إثارة المشاكل»، بحسب ما يشرح مدير مركز الشرق الأوسط للدراسات في جامعة أوكلاهوما جوشوا لانديس، قائلاً: «أظن أنه مقارنة بالفييتناميين والعراقيين، فإن الأميركيين لديهم إحساس أقل بالمسؤولية يدفعهم إلى قبول المزيد من السوريين».

أحدث رفض استقبال المزيد
من اللاجئين السوريين انقساماً بين المرشحين الجمهوريين للرئاسة


جوهر الرفض السياسي لاستقبال المزيد من اللاجئين السوريين عبّرت عنه أطياف سياسية مختلفة، حتى أنه أحدث انقساماً بين المرشحين الجمهوريين للرئاسة. اللافت للانتباه كان موقف دونالد ترامب الذي دعا، سابقاً، إلى بناء جدار يمنع دخول القادمين من المكسيك، لكنه قال لقناة «فوكس نيوز»، قبل أيام: «أكره الفكرة ولكن على أساس إنساني، عليك أن تقبل في ظل ما يحدث».
أما المعارضون، فقد ربطوا موقفهم بـ«تهديد الأمن القومي»، ومنهم المرشح للرئاسة سكوت ووكر، الذي أصرّ على أنه «يجب أن لا تقبل الولايات المتحدة المزيد من اللاجئين، والتركيز بدلاً من ذلك على محاربة داعش، الذي يسيطر على العديد من السوريين، وغيرهم ممّن يفرّون إلى الخارج». النائب الجمهوري بيتي كينغ، مثال آخر، فقد أعلن أنه يعارض قرار الإدارة الأميركية استقبال 10 آلاف لاجئ سوري، لأنه لا يريد «تفجير بوسطن جديد».
أوجد هذا الخطاب مقاربة إعلامية مماثلة. إيان توتل شبّه وضع اللاجئين السوريين باستقبال اللاجئين الصوماليين، منذ بدء الحرب في الصومال، عام 1980، امتداداً إلى تسعينيات القرن الماضي. «ليس من الصعب تخيّل دمشق صغيرة في المستقبل القريب، في بوفالو أو كينساس أو رينو»، كتب توتل في موقع «ناشيونال ريفيو»، مشيراً إلى مفارقة بدت له مقلقة، وهي أن عدد اللاجئين السوريين يتخطى الصوماليين. لفت توتل إلى أن مفوّضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، ذكرت أن القتال في الصومال أنتج 1.1 مليون لاجئ، و1.1 مليون آخرين نزحوا داخل بلدهم، ليقول بعدها إن «عدد السوريين الذين فرّوا بسبب الأزمة، تخطى الأرقام السابقة: 4 ملايين لاجئ و7 ملايين آخرين نزحوا في الداخل».
«إذا سعت الولايات المتحدة إلى قبول السوريين، من خلال المقارنة بعدد اللاجئين الصوماليين، فسنكون أمام 400 ألف لاجئ جديد»، أضاف توتل، مشيراً إلى أنه «يمكن المرء أن يستشف ما سيترتب على ذلك من ضغط على برامج الرعاية الاجتماعية، وتهديد إرهابي متزايد».
الكاتب انتقل إلى وجهة نظر أبعد، فـ«كما في التجربة الصومالية، لا تقتصر العواقب على المدى القصير»، على حدّ قوله، و«إذا ما وضعنا جانباً إمكانية أن يكون بعض اللاجئين على اتصال بداعش، فإن تجنيسهم سيحمل، بالتأكيد، تهديدات للأمن القومي، لن تظهر قبل 20 عاماً».
«نعرف الآن أكثر من ذي قبل عن التهديدات التي نواجهها، ولدينا الجالية الصومالية كمثال على آثار السياسة الكريمة للتعاطي مع اللاجئين»، أضاف الكاتب، ليحسم الموقف قائلاً إن «الأمر قد يُبنى على أساسٍ إنساني، ولكن قد يكون من غير الإنساني تهديد الأمن الأميركي، في سياق هذه العملية».
لكنّ توتل وآخرين ممّن يتغنّون بـ«الكرم الأميركي» تجاه اللاجئين الصوماليين وغيرهم، تناسوا دور الولايات المتحدة في الحرب الصومالية، حيث تحوّلت قوات حفظ السلام الأميركية إلى محارِبة تحت غطاء القضاء على المجاعة. حينها، بدا السيناتور روبرت بيرد الأبلغ تعبيراً في الداخل الأميركي عن واقع الحال، فوصف العمليات بأنها تحوّلت إلى «عصابات». وقال: «من الواضح أن المهمة الإنسانية في الصومال قد حُجبت تماماً لتتحوّل إلى حرب عصابات، دخلت فيها الولايات المتحدة، تحت مظلة الأمم المتحدة».
بعيداً عن السياسة والإعلام، يتطرق جزء من المحلّلين والمراقبين إلى الجوانب القانونية للقضية، فيشيرون إلى أن المشكلة التي تواجهها الولايات المتحدة، هي أن نظام اللاجئين لديها ليس مبنياً على استيعاب الحالات الإنسانية الطارئة. «إنه بطيء إلى حدّ أنه يجعل من الصعب أن تستجيب الولايات المتحدة للأزمات، كتلك التي تتكشف حالياً في أوروبا والشرق الأوسط»، كتبت دارا ليند في موقع «فوكس» (vox).

حدّد القانون الأميركي عدد اللاجئين السنوي الذي يُسمح باستقباله من كافة أنحاء العالم بـ70 ألفاً


فقد حدّد القانون، عدد اللاجئين السنوي الذي يُسمح باستقباله من كافة أنحاء العالم، بـ70 ألفاً، مقسِّماً هذا الرقم على المناطق. في عام 2015، وضعت الولايات المتحدة خططاً لاستقبال 33 ألف لاجئ من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ثمّ بعدها أعلن باراك أوباما نيّته إضافة 10 آلاف من سوريا، الأمر الذي عدّه البعض زيادة ملحوظة، نسبة إلى 1343 لاجئاً سورياً استقبلتهم أميركا، منذ بداية الأزمة السورية. ولكن «نيويورك تايمز» ذكرت، كذلك، أن وزير الخارجية جون كيري قال، خلال اجتماع مغلق لإحدى لجان الكونغرس، إن العدد الإجمالي للاجئين الذي تسعى الولايات المتحدة إلى استيعابه قد يرتفع من 70 ألفاً إلى 100 ألف، وهو قرار منوط بموافقة الكونغرس ذي الغالبية الجمهورية، وبالتالي قد يقابل بمعارضة ورفض قاطعين، أو بعرقلة لقرارات أوباما السابقة والمستقبلية، في هذا الإطار.
وعلاوة على عدم المرونة في القانون الأميركي، فإن «الولايات المتحدة طالما أبدت تحفظاً عندما يتعلق الأمر باستقبال لاجئين من مناطق النزاع في الشرق الأوسط»، بحسب ليند، التي توضح أنه بعد انسحابها من العراق، حدّدت واشنطن عدد العراقيين الذين تنوي استقبالهم (وهم ممن ساعدوا الأميركيين أثناء وجودهم في العراق) بـ20 ألفاً، ولكنها فعلياً استقبلت 392 فقط في عام 2011، و6 آلاف في عام 2013، نتيجة ضغوط داخلية كبيرة مورست عليها.
يمكن أن تتجاوز الولايات المتحدة الحصة الإقليمية، ولكن إعادة توطين اللاجئين تأتي ضمن عملية طويلة، عادة ما تستغرق عدة سنوات. تبدأ هذه العملية من تجهيز موظفين وموارد ونشرها على الأرض، ربما في مخيّمات اللجوء في تركيا ولبنان، للبحث عن اللاجئين المرشحين لتوطينهم والتحقّق من وضعهم، وقد تستغرق 18 شهراً أو عامين. لذا، من المتوقع أن تأخذ مسألة استقبال 10 آلاف لاجئ، بعض الوقت، حتى أن استقبال المزيد سيطلب وقتاً أكثر.
في عام 2014، دعا السيناتور الديموقراطي ديك دوربن، خلال جلسة استماع، إلى التنبه إلى القيود المفروضة على اللاجئين «الذين قدموا الدعم المادي للمجموعات الإرهابية في سوريا»، وقال إن «شخصاً قدم طعاماً أو سيجارة يمكن أن يُمنع من دخول الولايات المتحدة». رداً على ذلك، وضعت الحكومة استثناءً وهو أن «الأشخاص الذين وفّروا دعماً مادياً غير مهم للمسلحين، يمكن أن يُقبلوا كلاجئين، إذا ما ارتأى ذلك المسؤولون الذين ينظرون في وضعهم». لكن المسألة استمرت حتى أيار 2015 ليُتاح للإدارة الأميركية تحديد معنى عبارة «دعم غير مهم»، وهو ما أدى إلى تجميد طلبات اللجوء على مدى أكثر من 15 شهراً.
كل ذلك لا يعدّ سبباً كافياً لعدم استقبال اللاجئين السوريين، بالنسبة إلى ليند التي توضح أنه «عندما تريد الولايات المتحدة القيام بالأمر، يمكنها إجلاء اللاجئين من الأماكن التي يوجدون فيها، في البداية، ثم تباشر بأوراق استقبالهم». مثال على ذلك، تحويل قاعدة «فورت ديكس» العسكرية في نيوجرسي إلى مركز استقبال لألفي لاجئ ألباني من كوسوفو، في عام 1999.
مثال آخر، هو عدد اللاجئين من ميانمار والكونغو، الذي يصل إلى أكثر بكثير من عدد اللاجئين السوريين إلى أميركا، خلال العامين الماضيين.