حين كان حكام تركيا مشغولين بإبرام الاتفاق النووي الثلاثي مع البرازيل وإيران، كانت دبلوماسيتهم ناشطة أيضاً على جبهة البلقان. استكمل أحمد داوود أوغلو «سحره الدبلوماسي» وأنجز مصالحة صربية ــ بوسنية
أرنست خوري
لطالما اعتبرت إدارة «العدالة والتنمية» التركية الحاكمة أنّ إحدى هويات دولتها، هي البلقانية، إضافة إلى العربية والأوروبية والاسلامية والقوقازية والآسيوية. هوية ألزمت دبلوماسيتها النشاط على هذه الجبهة التي ترى أنقرة أنّ هدوءها «يعني هدوء أوروبا بكاملها». منطقة تغلي بالصراعات الدينية التي تُوِّجَت بأبشع مجزرة عرفتها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك عندما قُتل أكثر من 8000 بوسني مسلم على أيدي الصرب خلال حرب البوسنة والهرسك في تموز 1995.
ومنذ وصول حزب رجب طيب أردوغان وعبد الله غول إلى الحكم في 2002، عمل حكام أنقرة بنصيحة مُلهم سياساتهم الخارجية، أحمد داوود أوغلو، و«ورّطوا» أنفسهم في قلب المشاكل التي لا تنتهي في تلك المنطقة، بين الصرب والبوسنة وكرواتيا ومقدونيا واليونان. ورغم أنّ أحد معايير الدبلوماسية التركية إزاء هذه المنطقة، كان قرب الأتراك من مسلمي أوروبا، بدليل أن أنقرة كانت عرابة استقلال إقليم كوسوفو في شباط 2008، إلا أنها تمكنت من نيل ثقة الأطراف كافة. وفي الأيام القليلة الماضية، حقّقت تركيا «أعجوبة» جديدة، كان بطلها داوود أوغلو، الذي يجيد «السحر»، وفقاً لمصطلحات وزير الخارجية الاسباني ميغال أنخيل موراتينوس. فقد تمكنت تركيا من مصالحة البوسنة مع صربيا، وذلك في قمة ثلاثية تاريخية كانت الأولى من نوعها منذ حرب البلقان، جمع فيها الرئيس غول، أمس، كلاً من نظيريه الصربي بوريس تاديش والبوسني حارس سيلادزيتش في إسطنبول. على أن تُستكمل المصالحة خلال اليومين المقبلين، عندما يتبادلان الزيارات في بلغراد وساراييفو، قبل أن يشارك تاديش في تموز المقبل، للمرة الأولى، في مراسم الذكرى الـ15 لمجزرة سريبرينيتشا.
«أعجوبة» كانت قد بدأت ملامحها تظهر في 31 آذار الماضي، عندما تمكنت حركة داوود أوغلو من إقناع حكام بلغراد بتقديم اعتذار رسمي من الشعب البوسني عن مجازر سريبرينيتشا، وهو ما نتج عنه تبادل فوري للسفراء بين الدولتين، وهو ما كان غول قد هندسه، باعتراف جميع الأطراف، خلال زيارته إلى بلغراد في تشرين الأول الماضي.
وكانت قمة غول ـــــ تاديش ــــ سيلادزيتش، أمس، قد ترجمت نجاحاً منقطع النظير لداوود أوغلو. فخلال وجوده في بلغراد، يوم الثلاثاء الماضي، أقنع تاديش بفكرة القمة الثلاثية. وعلى الفور، اتصل بسيلادزيتش وعرض عليه الفكرة التي وافق عليها

نجحت تركيا حيث فشلت أوروبا وأميركا: اعتذار بلغراد وتبادل سفراء وقمة مصالحة في اسطنبول
الرئيس البوسني، ما دفع بداوود أوغلو إلى الاتصال مباشرة بغول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لإبلاغهما بالتطورات. وحين كان عائداً على متن الطائرة، أبلغ موراتينوس بالأمر، فلم يكن بوزير حكومة الدولة الرئيسة للاتحاد الأوروبي، إلا أن أجابه ممازحاً: «أحمد، لا بدّ أنك ساحر». وأجمعت الصحف التركية على اعتبار أنّ المصالحة ستسهّل قبول ترشيح البوسنة لعضوية حلف شمالي الأطلسي، وذلك يوم الخميس المقبل، خلال اجتماع وزراء خارجية الحلف في العاصمة الاستونية تالين، علماً بأنه سبق لكرواتيا وألبانيا أن انضمتا إليه، بينما لا تزال عقدة اسم دولة مقدونيا مع اليونان، تقف عقبة أمام انضمام هذه الدولة البلقانية إلى «الأطلسي». وبدا واضحاً أنّ تركيا نجحت، مرة جديدة، حيث فشل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إذ إنّ «مسار بوتمير» (الأميركي ـــــ الأوروبي) فشل في إتمام مصالحة البوسنة مع صربيا.