أقلّ ما يُقال عن «الفضيحة» التي قضت على إحدى أبرز الشخصيات العامة في تركيا، والتي انتهت باستقالة دينيز بايكال من رئاسة حزب أتاتورك أمس، أنّها هدية قيّمة لرجب طيب أردوغان، غير المعتاد على التعاطي عادةً إلا مع المصائب السياسية
أرنست خوري
هكذا هي الحياة العامة والخاصّة للسياسيين. فيلم مصوَّر التُقط بكاميرا خفيّة، يُظهِر رئيس شيخ الأحزاب التركية وأعرقها، «الشعب الجمهوري»، دينيز بايكال وشريكته النائبة عن حزبه في العاصمة أنقرة، نسرين بايتوك، عاريين يمارسان الجنس. الفيلم نشره موقع صحيفة «وقت»، وعُمِّم على عدد من المواقع الإلكترونية، ومن بينها youtube.com، قضى سياسياً وربما عائلياً على الرجل البالغ 72 عاماً، الذي يُعَدّ من صقور الحياة العامة التركية منذ عقود. ضربة قاضية لبايكال، مصدر الرعب الرئيسي لجميع السياسيين الذين يتقون لسانه السليط وشخصيته الحديدية ونفوذه اللامحدود في السياسة والاقتصاد والإعلام والجيش. يكفي أنه كان رئيس حزب أتاتورك.
قلّما يهم معرفة ما إذا كان تصنيف الشريط فضيحة أو تعدّياً على الحياة الشخصية التي لا تعني سوى بايكال والنائبة بايتوك؛ فالواقعة قد وقعت، وهي تصبّ في مصلحة رجب طيب أردوغان وحزبه وحكومته، إضافة إلى الأحزاب التركية العلمانية المعارِضة لـ«العدالة والتنمية»، التي فُتح الباب أمامها لسرقة جزء من جمهور «الشعب الجمهوري»، وذلك قبل 11 يوماً من المؤتمر الوطني لهذا الحزب المتعثّر شعبياً وسياسياً على أبواب الانتخابات التشريعية المقبلة في 2011، وهو الذي كان شعاره المركزي «مصالحة جماهيرنا مع حزبها». وانصبّ اهتمام الإعلام التركي على السيناريوات المحتملة لانتشار الفيلم ـــــ الفضيحة؛ مَن يقف خلفه؟ هل تصحّ رواية بايكال عن أنّ الحزب الحاكم هو الفاعل؟ أم أحد السيناريويَّين الآخرَين، اللذين يتعلقان بمنافسة حزبية داخل «الشعب الجمهوري» للتخلص من بايكال، حاكم الحزب بيد حديدية فعلياً منذ 1988 بوصفه أميناً عاماً له، ورسمياً منذ 1992 بوصفه رئيساً له؟
بدأ كل شيء يوم الجمعة الماضي، عندما نشر موقع صحيفة «وقت»، المعروفة بعدائها المطلق لعلمانيي تركيا من منطلق إسلامي متشدد، فيلماً جنسياً مصوَّراً بكاميرا خفية يظهر بايكال مع بايتوك (50 عاماً)، سكريتيرته الخاصة التي جعلها نائبة عن أنقرة. يومان كانا كافيين ليوجّه الرجل «خطاباً درامياً»، على حد وصف صحيفة «حرييت» المؤيدة لحزبه، يعلن فيه استقالته، وذلك غداة اجتماع طارئ عقده مع قيادة حزبه، رافضاً المغادرة من دون شنّ آخر حروبه على الحزب الحاكم.
وقال بايكال، في خطاب الوداع، إنّ «هذا الفيلم يغتصب حرمة حياتي الشخصية. إنها مؤامرة لا تهدف إلى أرباح مادية، بل خلفياتها سياسية، وهي لا تستهدفني شخصياً، بل ضرب نضال حزبنا من أجل الديموقراطية». وبعدما دعا مناصريه إلى عدم اعتبار استقالته بمثابة خسارة، اتهم الحزب الحاكم بالوقوف خلف «المؤامرة»، مشيراً إلى أنه ليس من الصدفة أن يتزامن نشر الفيلم بعد يومين من تصديق البرلمان على حزمة التعديلات الدستورية. وجزم بايكال بأنه يستحيل بثّ هذا التسجيل المصوَّر من دون علم «العدالة والتنمية». وأخيراً، رفض بايكال، الذي يمثله 98 نائباً في البرلمان، تقديم اعتذار أو توضيح موقفه، فـ«أنا لن أحاصر نفسي، ولن أسمح لأحد بمحاصرتي ولا أن يستوضحني. وإذا كان ثمن ذلك استقالتي من الحزب، فسأدفع الثمن، وها أنا أقدّمها».
وأمام الاتهامات الموجّهة إليه وإلى حزبه، أدّى أردوغان دور «رجل الدولة» المترفّع عن الشماتة بخصومه، عندما أمر جميع نواب وعناصر حزبه بعدم إثارة الموضوع نهائياً، وأوصى القضاء بملاحقة الجهة التي عمّمت التسجيل المصوَّر، على غرار ما فعله الرئيس عبد الله غول.
لكن الاستعدادات لمؤتمر «الشعب الجمهوري»، الذي كان مقرَّراً عقده في 22 و23 من الشهر الجاري، والذي من غير المعروف ما إذا كان سيتأجل موعده بسبب الفضيحة، تكشف صورة بعيدة عن اتهامات بايكال لـ«العدالة والتنمية»، بما أنّ لبايكال أعداءً كثراً داخل تنظيمه، يتقدّمهم القيادي المطرود حديثاً، رئيس بلدية شيشلي مصطفى ساريغول. وبحسب صحيفة «توداي زمان»، هناك رواية تفيد بأنّ ساريغول دفع مبلغ 750 ألف دولار لـ«مصوّر ـــــ مجرم» يُدعى ميهات يلماز، كي يصور تحركات بايكال في العاصمة البلجيكية بروكسل، التي استضافت الفضيحة الجنسية في 13 نيسان الماضي، وذلك كي يرغمه على الاستقالة. اتهام وجّهه المساعد الأول لبايكال، الأمين العام للحزب، أوندر ساف، وهو ما نفاه ساريغول الذي رفع دعوى قضائية على كل من يتهمه بالتورط في فضيحة التصوير.
وكان بايكال، نائب رئيس «الاشتراكية الدولية» بين عامي 2003 و2008، ينتظر موعد مؤتمر حزبه من دون هموم كبرى بشأن احتمال أن ينافسه أحد على رئاسة أعرق أحزاب تركيا، حتى إنه لم يجد ضرورة في الترشّح بعد، بما أنّ فوزه كان مضموناً.
سيناريو آخر طفا على سطح مشهد الفضيحة، تحدث عن احتمال تورط زوج النائبة بايتوك، المقرب جداً من ساريغول، الذي ارتأى أنّ نشر الفيديو قبيل أيام من موعد مؤتمر الحزب، هو «التوقيت الذهبي» للقضاء على بايكال، وإرغامه على الاستقالة.