لم يعد بإمكان الغرب مناكفة الصين، كما كانت عليه الحال في السابق. فالعملاق الآسيوي كرّس نفسه رقماً في غاية الصعوبة، يستقطب الغرب لاسترضائه
باريس ــ بسّام الطيارة
دامت زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وزوجته كارلا بروني إلى بكين ثلاثة أيام، وسمحت لعدد من المراقبين بالقول إنها «أزالت سوء تفاهم فرنسي صيني»، وأعادت السخونة إلى العلاقات بين البلدين بعد سنتين من الجمود. ويتفق هؤلاء على أن ساركوزي قد «فهم» أن العلاقة مع العملاق الآسيوي لا يمكن أن تبنى على «التحدّي عبر تصريحات نارية»، وأنها تتطلب «مراعاة الزمن»، فلا تدافع ولا تسرع يمكن أن يقود إلى تغيير في سياسة حكام بكين الذين يعيشون في ظل ثقة بأن «الوقت يعمل لمصلحتهم».

المعرض العالمي في شنغهاي يشهد على الثقة التي تظلل السياسة الصينية

وتشهد العملية التواصلية العملاقة، التي يمثلها المعرض العالمي في شنغهاي، على هذه الثقة التي تظلل السياسة الصينية التي تنظر إلى «العالم ـــــ السوق» بعيون شرهة، لمن بات يعرف أنه «مصنع ـــــ العالم»، من دون أن يغيّر حكامه قيد أنملة في «ديماغوجية النظام» القائم على الشيوعية التي تحثّ طبقة البروليتاريا على «الإثراء والاستهلاك».
ولا ريب في أن اختيار الأول من أيار «عيد العمال» لافتتاح أكبر معرض في تاريخ البشرية، ما هو إلا غمزة لهذه الازدواجية. نصف مليون زائر انتظروا ساعات طويلة يوم افتتاح المعرض ليتسنّى لهم الدخول إلى الأجنحة الشعبية لما يزيد على ١٨٩ جناحاً للدول المشاركة.
إذاً الواقعية فرضت على ساركوزي، الذي تعوّد ألّا تتجاوز زياراته للخارج ٤٨ ساعة، تغييراً في النمط، وهو ما أشارت إلىه صحيفة «شاينا ديلي» الناطقة باللغة الإنكليزية، والتي ركّزت على أن العلاقات لم تعد إلى «العهد العسلي» السابق ولكنها باتت براغماتية وتعالج المصالح المتبادلة للبلدين، وهو ما اعترف به الرئيس الفرنسي لمضيفيه حول طاولة عشاء، في أول يوم من زيارته، بقوله «من العبث أن نتبادل التهم»، في إشارة إلى التهم بعدم احترام حقوق الإنسان في التيبيت، والتي كانت وراء إطلاق «مرحلة الخصام»، بينما كانت إجابة الرئيس الصيني هو جينتاو الترحيب بـ«قلب صفحة الماضي».
ويشير معلّقون إلى أن أوروبا والعالم الغربي لا يمكنهما أن يربطا علاقاتهما مع العملاق الصيني بواقع الحال في التيبيت، وإن كان عليهما أن يذكّرا دائماً بتعلّقهما بحقوق الإنسان، وأنه إذا تطلّب الأمر موقفاً حازماً، يجب أن يكون موقفاً «جماعياً أوروبيّاً أو غربيّاً».
رغم ذلك، لا يزال الملف الشائك بشأن قيمة صرف عملة الصين اليوان «المنخفضة بقرار سياسي» يسبّب تشنّجاً بين الأسواق العالمية والاقتصاد الصيني.
وكانت بكين قد ثبّتت سعر صرف عملتها تجاه الدولار الأميركي على مدى الأشهر الواحد والعشرين الماضية، ما سبّب لها انتقادات من واشنطن وعواصم أخرى بأنها تبقي قيمة عملتها منخفضة من أجل دعم صادراتها، فيما قال نائب وزير التجارة الصيني، فو شيينغ، إن «رفع أو خفض قيمة اليوان سيعتمد على وضعها الاقتصادي والحاجة إلى الاستقرار لا على عوامل سياسية».
ومن المعروف أن من شأن رفع قيمة اليوان أن يخفض تكلفة واردات الصين من السلع الأوّلية المقوّمة بالدولار، مثل النفط والمواد الأوّلية (نحاس حديد خام)، لكنه سيجعل الصادرات الصينية أكثر تكلفة، وهو ما تسعى إليه الدول المستوردة للسلع الصينية لكسر عدم التوازن في موازينها التجارية مع العملاق الصيني، فيما الصين تشكو من أن «تعويم عملتها» قد يقود إلى فقدان سيطرتها على ميزان العملات الأجنبية المائل لمصلحتها والذي يسمح لها بشراء المواد الأوّلية في الأسواق العالمية الخاضعة لـ«بورصات الغرب».

أوروبا والعالم الغربي لا يمكنهما ربط علاقاتهما مع بكين بالتيبيت
وقد أشار ساركوزي إلى هذا الهاجس الصيني بقوله إنه يجب «النظر إلى مسألة ضبط أسعار المواد الأولية في العالم». وبالطبع فإن قاطن الإليزيه تطرّق، بعد ملف العلاقات التجارية الثنائية وخصوصاً المفاعلين النوويين اللذين باعتهما باريس لبكين في عام ٢٠٠٧ بصفقة بلغت ٨ مليارات يورو، إلى مجمل «الملفات الدولية» وفي مقدّمها الملف النووي الإيراني. وذكرت المصادر المرافقة للوفد الفرنسي أن ساركوزي أشار إلى أنه «يتفهّم موقف الصين» التي تستورد نفطها من إيران، لكنّه «شرح للأصدقاء الصينيين الخطر الذي يمثّله التسلح النووي الإيراني على التوازن في العالم».
إلا أن مصدراً أوروبياً متابعاً في باريس يرى أن «مفتاح تغيير الموقف الصيني»، أكان في ما يتعلق بالعملة أم في فتح الأسواق أم في أسعار المواد الخام أم في العقوبات على إيران، لن يكون عبر محادثات ثنائية مع أي دولة ما عدا الولايات المتحدة، وقد أكدت أخبار وردت من واشنطن أن الجولة الثانية من الحوار الاقتصادي الاستراتيجي الأميركي الصيني ستعقد في بكين يومي ٢٤ و٢٥ أيار المقبل. إذاً لا قرارات تغيير كبرى في السياسة الصينية المعلنة قبل هذا اللقاء بين العملاقين.