أنت في بلد عربي، وعليك أن تفهم اللغة العربية، وإلا فتدبّر أمرك». عبارة كانت كفيلة بإثارة حفيظة القوميين الزنوج في موريتانيا، لتعيد إلى البلاد ذكريات مريرة عن صراع الهويات
جمانة فرحات
لم يكن أحد يتوقع أن الاحتفال بيوم اللغة العربية في موريتانيا، في شهر آذار الماضي، سيتحول في غضون أيام قليلة إلى عنوان للسجال الحادّ بين أنصار التعريب ومعارضيه. ورغم مرور خمسين عاماً على نيل موريتانيا استقلالها عن الاحتلال الفرنسي، وانضمامها إلى جامعة الدول العربية عام 1973، إلا أن هويتها الثقافية لا تزال مترنحة ما بين ثقل لغة الاستعمار ولغتها الأصلية.
ورفضُ رئيس الوزراء الموريتاني، ولد محمد الأغظف، ترجمة كلامه من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية، بناءً على طلب تقدم به أحد الصحافيين، كان كفيلاً بدفع الطلاب الزنوج القوميين إلى الخروج إلى الشارع في تظاهرات ترفض ما عدّوه محاولات تعميم اللغة العربية لغةً رسمية وحيدة في الدولة.
وأبدى الطلاب الناطقون بالفرنسية، الذين ينتمون إلى جماعات عرقية، بينها الولوف والسوننكة، تخوفهم من أن يؤدي جعل اللغة العربية إلزامية في أجهزة الدولة والمدارس إلى تضرّر فرصهم في التعليم والعمل. وسرعان ما تحوّلت التظاهرات إلى اشتباكات بين الطلاب من الجهتين، ما دفع الحكومة الموريتانية إلى إعلان أنها ستطلق سلسلة اجتماعات تناقش السياسة التربوية في البلاد، أملاً بالتوصل إلى تفاهم على مسألة اللغة.
تفاهم يرى أطراف عديدون ضرورة التوصل إليه، نظراً إلى تاريخ موريتانيا الطويل من الصراعات التي أجّجها النقاش بشأن استخدام اللغة العربية في النظامين الإداري والتعليمي للبلاد. فعلى الرغم من أن الدستور الموريتاني الحالي ينص على أن اللغة العربية التي ينطق بها أكثر من 84 في المئة من السكان هي اللغة الرسمية للبلاد، إلا أن اللغة الفرنسية لا تزال مهيمنة داخل أجهزة الدولة الرسمية. هيمنة تعود في الدرجة الأولى إلى مخلّفات الاحتلال الفرنسي، الذي جعل اللغة الفرنسية لغة رسمية في أول دستور عام 1960، إضافة إلى النفوذ الذي يتمتع به العديد من الناطقين بالفرنسية داخل أجهزة الدولة بفعل إمساكهم بزمام الإدارة لسنوات طويلة. إلا أنه مع بدء عملية انتقال الموريتانيين، الذين يغلب عليهم النطق بالعربية، من الريف إلى المدينة، أجرى الرئيس السابق المختار ولد داداه محاولة لاعتماد اللغة العربية رسمياً في المناهج الدراسية، بعدما كان يسمح بدراستها اختيارياً. محاولة كانت نتيجتها اضطرابات عرقية، إثر لجوء العاملين في إدارات الدولة إلى الإضراب بتحريض من فرنسا والسنغال، أعقبه اندلاع مواجهات بين طلاب الثانويات من العرب والزنوج، اتخذت طابع الصراع العرقي، بعدما رفع الزنوج شعار «رفض إقصائهم» في دفاعهم عن تمسّكهم باللغة الفرنسية. وبقيت الحال على ذلك حتى الانقلاب العسكري الأول في تاريخ موريتانيا في عام 1978. على الأثر، اتخذ قادة الانقلاب قراراً باتباع نظام تعليمي مزدوج قائم على الفرنسية والعربية. واستتبع هذا الأمر ازدياداً في الهوة الثقافية بين الطلاب الذين باتوا يفتقدون لغة مشتركة يتواصلون من خلالها.
ومع تداخل التوترات العرقية بالتوترات السياسة، في مرحلة شهدت سلسلة من الانقلابات، عادت الأمور لتتفجّر في عام 1989، على شكل خلافات بين موريتانيا والسنغال، وصلت إلى ذروتها مع استهداف مواطني البلدين في كل من نواكشوط وداكار، قبل أن تقدم موريتانيا على تصفية مئات من عسكرييها الزنوج وترحيل آلافاً منهم، ليذهب العديد من الموريتانيين ضحايا تصفية حسابات قومية بعد تسييس القضية اللغوية.