نيويورك ـ نزار عبود اصطدمت الدبلوماسية التركية في مجلس الأمن بالجدار الإسرائيلي على نحو لم يكن من السهل استساغته سياسياً، ولم تنته الجلسة الماراثونية التي دامت 13 ساعة وامتدت من ظهر الاثنين إلى صباح أمس، حسب توقيت نيويورك، إلا بعد إصدار بيان رئاسي قابل للتأويل بعدة أشكال. بيان يرضي الإسرائيليين، ولا يخضعهم لتحقيق دولي مستقل كما نادى الـأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ويلبّي بعض مطالب تركيا باعتبار الحادث وقع في المياه الدولية ويدين «تلك الأعمال التي أدت إلى فقدان أرواح عشرة مدنيين على الأقل وجرح كثيرين».
وكانت الولايات المتحدة في ورطة حقيقية، لأنها إذا أرضت الحليف التركي ستغضب الشريك الإسرائيلي. وإذا أرضت الشريك أغضبت الحليف. فجاء البيان يلبّي خوف إسرائيل من تحقيقات دولية أخرى بعد غولدستون من جهة، ويترك لكل طرف تأويل الأمور كما يريد من جهة أخرى. وفي النهاية، تحدد الولايات المتحدة كيفية تفسير البيان، مستخدمة نفوذها لدى الطرفين. وهذا ما فعله بالفعل نائب مندوب الولايات المتحدة في المنظمة الدولية، أليخاندرو وولف، الذي أدار المفاوضات. وقال مخاطباً المراسلين بعد صدور البيان «أعتقد أن هناك ما يدعو إلى الاستنتاج أن الأمين العام سيدعو إلى إجراء تحقيق كامل. ونعتقد بدورنا أن الإسرائيليين قادرين على إجراء تحقيق كامل».
ولم يكن هذا تفسير رئيس مجلس الأمن الدولي لهذا الشهر، مندوب المكسيك كلود هيلار، الذي قال إن البيان واضح. فهو يرى أن إسرائيل هي المرتكبة للاعتداء، والأمين العام للأمم المتحدة سيختار المحققين، وهذا ما فهمه أعضاء مجلس الأمن الدولي الآخرون.
البيان طالب بالإفراج الفوري عن السفن المحتجزة وعن المدنيين والجرحى الذين تحتجزهم إسرائيل، وحثّ الدولة العبرية على السماح بالزيارة الدبلوماسية الكاملة من أجل السماح للدول المعنية باستعادة جثث الضحايا والجرحى فوراً، و«ضمان إيصال المساعدات الإنسانية من القافلة إلى وجهتها». وهذا أيضاً يسمح لإسرائيل بنقل المساعدات براً إلى غزة بدلاً من إيصالها مباشرة بالسفن وبكسر الحصار وكسر هيبتها معه.
وبالنسبة إلى تأليف لجنة تحقيق دولية، أكد البيان أن المجلس يأخذ علماً ببيان الأمين العام للأمم المتحدة بشأن الحاجة إلى التحقيق الكامل «في المسألة، ويدعو المجلس إلى إجراء تحقيق كامل شفاف بسرعة (بدلاً من: خلال 30 يوماً) وغير منحاز (بدلاً من: مستقل) وذي صدقية وشفاف ومنسجم مع المعايير الدولية».
رئيس مجلس الأمن الدولي قال إنه يفهم من تعبير «سريع» أن المجلس سيجتمع بعد 30 يوماً للاطلاع على التحقيق كما سيجريه الأمين العام، تاركاً المجال لتفسيرين متضاربين للبيان الرئاسي الذي يُعدّ إلى حدّ ما في مستوى القرار، لكونه يأخذ رقماً في مجلس الأمن الدولي ويصبح من وثائقه.
لكنّ الإدانة التي تضمنها البيان لم تكن صريحة لإسرائيل، فقد اكتفى في ديباجته بالإعراب عن «الأسف العميق لفقدان الأرواح والإصابات»، كما لو أن الضحايا سبّبوا ما أصابهم.
وحافظ البيان على اعتبار أن الوضع في غزة غير قابل للاستمرار، وطالب بتطبيق القرارين 1850 و1860 الصادرين عن المجلس منذ أوائل العام الماضي، «ولم يطبّقا حتى الآن بسبب ارتهان قطاع غزة مقابل الأسير جلعاد شاليط». وبقيت سائر الفقرات الأخرى على حالها.
وكان وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو قد غادر المجلس قبيل منتصف الليل متوجّهاً إلى واشنطن، حيث أجرى مشاورات مع وزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلينتون، تاركاً متابعة التفاوض للدبلوماسيين الأتراك في الأمم المتحدة، وفي مقدّمهم السفير أرتغول باباكان، ولم تتوقف المفاوضات حتى الثانية والنصف صباحاً. ولوحظ أن الموقف العربي كان ضعيفاً نسبياً، حيث تركّزت المفاوضات على الجانبين التركي والأميركي، فيما بقي دور رئيس مجلس الأمن اللبناني (حتى الثانية عشرة ليلاً) إجرائياً، علماً بأن طلب الجلسة جاء من الجانبين اللبناني والتركي معاً.
وأقرّ مندوب فلسطين الدائم المراقب في الأمم المتحدة، رياض منصور، بوجود خلاف في تفسير البيان بين الأميركيين والآخرين. وأكد أنه كان من الأفضل أن تنضم الولايات المتحدة إلى البيان في قراءتها له من أن تبقى خارج البيان وتعطّله بالكامل.
لكنّ آخرين رأوا أن البيان لن يكون أكثر قوة من تقرير غولدستون الذي همّشته الولايات المتحدة بضغوطها كما فعلت بسائر قرارات مجلس الأمن. ورأوا أن عدم إصدار القرار بسبب الموقف الأميركي ربما كان أفضل من إصداره، ما دام لن يطبّق بالشق القانوني، وإنما سيقتصر التطبيق على المسائل الإنسانية حصراً، وتستفيد الولايات المتحدة من الظهور بمظهر المشارك في الإجماع الدولي.
إلى ذلك، وفي إطار الخلاف على التحقيق، اقترحت فرنسا أن يأخذ الاتحاد الأوروبي على عاتقه إجراء تحقيق دولي. وقال وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية بيار لولوش «يجب تسليط الضوء على هذه القضية. الأمم المتحدة طالبت بلجنة تحقيق دولية ... ويمكن الأوروبيين أن يضطلعوا بهذه المسؤولية».