تورونتو مدينة تحت الحصار، غريبة عن أهلها، عصيّة ليس فقط على من يناهض ضيوفها (غزاتها؟) ويرفضهم من ملوك ورؤساء، بل على من يسكنها. هكذا، بانتظار انعقاد قمّتي مجموعتي الثماني والعشرين، تحوّل وسط العاصمة الثقافية والمالية لكندا إلى حصن منيع من المربّعات الأمنية والأسوار الحديدية. مشهد سُريالي يعكس طبيعة المرحلة الحالية والقادمة للصراع المعولم بين قوى الوضع الراهن وتلك المناهضة له
هشام صفي الدين
انعقاد قمّتي مجموعتي الثماني والعشرين في مكان وزمان واحد يمثّل منعطفاً، ولو رمزياً، في الشكل السياسي للنظام العالمي النيوليبرالي الحالي. فهي المرة الأخيرة التي تجتمع فيها مجموعة الثماني، التي ستُستبدل بمجموعة العشرين. والأخيرة وُلدت منذ عقد، لكنها لا تزال في طور التحوّل إلى ملتقى دائم يُفترض أن يعيد صياغة العلاقة بين الشمال الثري (الغرب) والجنوب النامي، لكنه قد يعيد إنتاج هذه العلاقة غير المتكافئة ضمن أطر أكثر تعقيداً وضبابية. والحدث قد يجدّد حركة مناهضة العولمة التي شهدت صعوداً ملحوظاً في تسعينيات القرن الماضي، ثم أصيبت بالفتور عقب أحداث أيلول 2001.
فقمّة العشرين ستُعقد في وسط المدينة، ما يحتم انعكاس الصراع بين المعسكرين على أرض الواقع إلى جانب الخلاف الإيديولوجي بينهما. لقد اتّبعت الحكومة الكندية، في ما يخصّ قمّة الثماني فقط، التقليد القاضي بعقد القمم الأمميّة في المناطق النائية، حيث يصعب على القوى المناهضة أن تكون موجودة ميدانياً لتعلن رفضها وغضبها وجهاً لوجه. فرؤساء الدول الثماني الأكبر اقتصادياً مدعوّون إلى بلدة هنتسفيل الريفية يومي الجمعة والسبت للدردشة بشأن تداعيات الأزمة المالية العالمية، وسبل تدعيم النظام النيوليبرالي العتيد. لكنهم سينتقلون في اليوم الثاني لملاقاة زملائهم في مجموعة العشرين في قلب مدينة تورونتو. لا تفسير منطقياً أو عملياً لقرار نقل المشاورات لمجموعة العشرين إلى وسط المدينة سوى الرغبة في التعبير عن ثقافة قمعية وترهيبية تريد أن تفرض نفسها فرضاً على الآخر عبر احتكار المكان. وهو ما تعيشه تورنتو منذ الآن، بعدما قُسّمت إلى مناطق أمنية، وطُوّقت بالأسوار ورجال الأمن.
داخل المربع الأمني الأول (المنطقة الحمراء)، الآلاف من قاطني الوسط أُُجبروا على الاستحصال على هويات خاصة عليهم إبرازها للسلطات الأمنية كلّما دخلوا منطقة إقامتهم (غير المقيمين يُمنع دخولهم بتاتاً). أكشاك الهوت دوغ والبوظة وغيرها أُخليت من الأرصفة ولا وعود لأصحابها (معظمهم من المهاجرين الجدد) بالتعويض حتى إشعار آخر. حتى سلّات القمامة وحاويات الجرائد (المئات منها) والمآوي الزجاجية لمحطات الحافلات العمومية باتت مصدر خطر واقتُلعت.
خارج المنطقة الحمراء حزام أمني آخر (المنطقة الزرقاء)، يحرسه المئات من رجال الأمن وينحصر السماح بدخوله لمن ترى تلك السلطات أنه لا يمثّل أيّ «خطر» على الأمن والسلامة العامة. أمّا السور المحيط بالمنطقة الحمراء (ارتفاعه ثلاثة أمتار وامتداده أكثر من عشرة كيلومترات) فهو نتاج جهد عمال مجهولي الهوية، يعملون بصمت ويتنقّلون بحافلات بيضاء لا تحمل أيّ علامة تعريف عن الشركات المالكة لها. لا حدود واضحة يرسمها السور، بل التفافات حلزونية أحياناً تُحوِّل المكان إلى شبه متاهة. ولمن لا يجد مدخلاً في تلك المتاهة وتسوّغ له نفسه تسلق الحاجز، صُمِّمت حلقات شباكه الصغيرة خصيصاً كي لا تتّسع لموطئ قدم. السماء أيضاً مساحة محظورة على أيّ جسم طائر، بما فيه الطائرات الورقيّة، باستثناء المروحيّات العسكرية وغيرها من سلاح الجو.
ويشمل التنسيق الأمني كل أجهزة الدولة من جيش وقوى بحرية وشرطة وأمن داخلي واستخباريّ (أكثر من عشرة آلاف عنصر) استُقدموا من جميع أرجاء كندا لبناء طوق من الترهيب والخوف إلى جانب السور الحديدي. أمّا المتظاهرون، فسيُحترَم حقهم في التظاهر عبر تخصيص متنزّه طبيعي يبعد كيلومترين عن مقر المؤتمر (ويقع للمفارقة خلف مقر مجلس نواب المحافظة). وكان قد خُصِّص متنزّه آخر على بعد ثلاثة كيلومترات للغرض نفسه، وقُرّر تجهيزه بكاميرات حية تنقل صورة المتظاهرين إلى قاعة المؤتمرات لتصل رسالتهم ولكن عن بعد.
هكذا يتحوّل حق التظاهر الذي تتغنّى به الديموقراطيات الغربية إلى بروتوكول محكم ومبرمج من الطقوس الاستعراضية. الإعلاميون أيضاً لم يسلموا من الإجراءات الأمنية. سيُحصرون في مقر المعرض الدولي الكندي، الذي حُدد مركزاً للتغطية الإعلامية الرسمية، والذي يبعد أيضاً بضعة كيلومترات عن مقر قمة العشرين، وأكثر من مئتي كيلومتر عن مقر قمة الثماني.
وفي خطوة لعلّها الأكثر سُريالية، قررت الحكومة أن تعوّضهم عن منعهم من المجيء إلى هنتسفيل وجوارها الشهير ببحيراته، عبر بناء بحيرة زائفة مزدانة بالقوارب داخل المقر الإعلامي بتكلفة خيالية (مليوني دولار). وقد أثار قرار بناء البحيرة زوبعة من الاحتجاجات لدى الأحزاب المعارضة، التي دانت أيضاً الميزانية العامة المخصصة للقمتين، والتي بلغت نحو 1.2 مليار دولار (مليار مخصص للأمن فقط)، أي أكثر بأضعاف من تكلفة أيّ قمة عالمية سابقة (381 مليوناً قمة الثماني في اليابان عام 2008، 30 مليوناً قمة العشرين في لندن عام 2009).
وإلى جانب الأمن، يشمل الإنفاق ملايين الدولارات على أشغال عامة غير مرتبطة بالحدث، بما فيها المراحيض والأرصفة السياحية، التي تبعد عشرات الكيلومترات عن مقر انعقاد القمة، لكنها تقع في الدائرة الانتخابية لأحد الوزراء (من قال إنّ هدر المال العام وشراء الأصوات حكر على الدول النامية؟).

تأسيس المجموعة

تأسّست مجموعة العشرين عام 1999 عقب الأزمة المالية الآسيوية، واقتصرت على وزراء مالية الدول الأعضاء ورؤساء بنوكها المركزية. أي إنّ وظيفتها الأساسية كانت مراقبة وضبط النظام المالي للدول المأزومة من جانب الدول الكبرى. ولكن مع اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، اتخذت الدول الكبرى قراراً بعقد مجموعة العشرين على مستوى رؤساء الدول روتينيّاً، وتحويل المجموعة إلى بديل دائم لمجموعة الثماني. توسيع دائرة المشاركة لا يعني توسيع دائرة القرار بل تمويهه. فمجموعة العشرين لا تتمتع بصفة رسمية تحمل مقرّراتها تبعات، كتلك التي تحملها قرارات البنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي. هذا لا يعني أن مجموعة العشرين هي مجرد ورقة توت تحتمي بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الكبار من سخط الشعوب المقهورة والفقيرة. الأغلب أنها تعكس اعترافاً ضمنياً من جانب القوى الرأسمالية، عقب الأزمات المالية المتكررة وموجة رفض شعبية، عن عجزها عن فرض نظام عالمي موحّد يحمي النيوليبرالية المتأزّمة من السقوط. وعليه جرى اللجوء إلى استراتيجية المعاهدات الثنائية، والاكتفاء بإنشاء أسواق حرّة

قُسّمت تورونتو إلى مناطق أمنية وطُوّقت بالأسوار ورجال الأمن

بلغت الميزانية العامة المخصصة للقمّتين نحو 1.2 مليار دولار
متبادَلة بدل سوق حرة عالمية موحّدة، وهو ما يسمح بفرض شروط الدولة القوية على الدولة الضعيفة، ولا يسترعي انتباه الرأي العام العالمي أو يستنهض قوى الممانعة، كما كانت الحال في التسعينيات. تضمن هذه المعاهدات ديمومة الشروط المالية القاسية على الدول الموقّعة، بدل اقتصارها على فترة الأزمات، ما يجعلها من الاستراتيجيات المفضّلة لصندوق النقد الدولي، الذي لن يحتاج إلى أن يتدخّل تدخّلاً سافراً لضمان ديمومة النظام النيوليبرالي كلّما وقعت الواقعة.
والولايات المتحدة سبّاقة في صكّ هذه المعاهدات، وقد وقّعت العديد منها مع دول أميركا اللاتينية الصغيرة كنيكاراغوا وباناما. وقد تُمثّّل مجموعة العشرين أرضية صلبة للتشاور في سبيل تعميم هذا النموذج (النيوليبرالية بجرعات صغيرة؟) ما يتطلّب إعادة النظر في سبل المواجهة: كيف يمكن مثلاً التعاطي بفعّالية مع تشعّب السوق الحرة العالمية إلى جيوب متشابكة ومتعدّدة تحميها اتفاقيات ثنائية لا مواثيق دولية يسهل الإشارة إليها أمام الرأي العام (كميثاق منظمة التجارة العالمية)؟ وهل من المجدي الاستمرار في الحديث عن جنوب وشمال في ظل التركيبة الجديدة لمجموعة العشرين (قد يكون كذلك ولكن ضمن مصطلحات جديدة)؟ وهل من الدقة اختيار مجموعة العشرين رمزاً للنظام الرأسمالي العالمي، وخصوصاً أنّ المجموعة تضمّ بلداناً، كالبرازيل وتركيا، ذات سياسات لا تتوافق دائماً مع مشروع الهيمنة الأميركية، وإن احتضنت السياسيات النيوليبرالية المضرّة بشرائح واسعة من مواطنيها؟ وما تأثير ذلك في شبكات التضامن بين الحركات المناهضة للهيمنة الأميركية في بعض هذه الدول والحركات المتضامنة معها في الشمال؟ غيض من فيض من أسئلة لا بدّ للحركات المناهضة للعولمة أن تواجهها، مستفيدةً من دروس الصراع المعولم سابقاً وبعيداً عن صخب الشارع... كي لا تبقى جهود هذه القوى محصورة في الشارع ومحاصرة فيه.


تحضير التظاهرات

تنحصر أيّ معارضة فعلية للقمم بالقوى غير الرسمية، التي بدأت تتدفّق على المدينة وتحضّر لنشاطات معارضة متنوّعة.
على صعيد تحدّي الإجراءات الأمنية، تكاد تُجمع معظم هذه القوى على اتّباع نهج سلمي للتظاهر. فالمسيرة الكبرى المُزمع إقامتها في اليوم الأول للقمّة لن تمر قرب سور المنطقة الحمراء. جزء من التحضير للمسيرة يتضمّن ورش عمل بشأن تقنيات التعاطي مع القوى الأمنية، بما يضمن الحقوق القانونية للمتظاهرين. وينوي المنظّمون نشر مراقبين قانونيّين يسهل التعرّف إليهم (يرتدون قبعات حمر أو لباساً فاقع اللون) بين المتظاهرين لتسجيل أيّ انتهاكات لحقوق الإنسان على أيدي قوى الأمن. لكن يبقى حجم المواجهة وسخونتها مرهوناً بقدرة المتظاهرين على كسر حاجز الخوف وقابلية الأمن على استخدام أساليب قمعيّة وعنفية.