إثارة ملفات البرقع والضواحي والمهاجرين أدت إلى استبعاد «الثلاثي العربي» عن المونديال الأفريقيباريس ــ بسّام الطيارة
الساعة السابعة و٣٢ دقيقة صباحاً في مقهى يقع على زاوية سان جيرمان في وسط باريس. يصبغ الوجوم وجوه الزبائن الذين تحلقوا حول بار مثل كل يوم لرشف فنجان قهوة مع قطعة كرواسان قبل التوجه إلى العمل. عيونهم منتفخة كعيون الخارجين من حفل عزاء، وقد باتوا ليلة بيضاء بعيداً عن النوم والراحة. مثل كل يوم، دخلت السيدة التي يشير إليها الجميع بـ«قارئة الصحيفة»، إذ إن عينيها تسابقان خطواتها كل يوم بحثاً عن الصحيفة اليومية التي يضعها صاحب المقهى (جزائري الأصل) بتصرف زبائنه، ولا تتردد بالمطالبة بها ممن يقرأها. زاغت عيناها يسرة ويمنة: لا صحيفة. ترددت قليلاً بالمطالبة، إذ إن الصمت مطبق خلافاً لأجواء كل يوم، فلا حديث سياسياً ولا حديث رياضياً يبث الحياة في الجو. الكل صامت.
إلا أن شغفها بالقراءة كان أقوى منها: «أين الصحيفة أرجوك؟». نظر الجميع إليها، البعض نظراته بشعة، والبعض الآخر يبدو شاكراً لها. وتحولت النظرات فجأة إلى صاحب المقهى «طهار»، الذي أجاب بنبرة بين التردد والشماتة: «لا صحيفة اليوم، اطلبوها من ريمون دومينيك (مدرب المنتخب الفرنسي).
كأن جواب صاحب المقهى فتح باب النقاش، فتحول الصمت إلى همهمة وتدافعت الأصوات لتصوغ صراخاً غوغائياً حول «مسؤولية النكبة»، أي الخسارة المهينة للفريق الوطني، فجعل البعض يعللها بغياب يوهان غوركوف صانع الألعاب. وفجأة علا صوت زبون في فناء المقهى وهو يطوي صحيفة في جيبه: «لماذا لا تسألون عن سبب غياب كريم بنزيما أو سمير نصري أو طاهر بن عرفة؟». خرج «الغريب» ولم ينتظر الإجابة، لكن سؤاله أعاد الوجوم والصمت إلى أجواء المقهى.
فقدان الرغبة في التخاطب والتمازج خارج الملعب وراء غياب «الرغبة في اللعب معاً... والربح»
في الواقع، إن الإجابة عن سؤال «الزائر الغريب» هي من الأسرار المتداولة، التي لا يجرؤ أحد على الجهر بها: العنصرية والتطييف والقبلية والعشائرية التي انتقلت من السياسة إلى المجتمع الفرنسي. إلا أن الخسارة المهينة «فكت عقد ألسنة المعلقين». ويتوقع أن تطفو هذه الأسئلة على سطح الإعلام وترافقها أجوبة لن يكون المجتمع الفرنسي سعيداً البتة بسماعها: إنها العنصرية التي لا تقول اسمها، وإن ضعف منتخب اليوم يعود إلى تفكك صلات الود والتضامن والرغبة في اللعب معاً، بعدما كان مثالاً على الاندماج ويطلق عليه اسم «Blanc, Black, Beur»، أي أبيض وأسود وبور (مهاجرون من أصول مغاربية مولودون في فرنسا) عندما كان متألقاً بأبطاله: ديديه ديشان ولوران بلان (مثال البيض) وباتريك فييرا وليلي تورهام (مثال السود) وزين الدين زيدان.
هذه العنصرية لم تصب فقط بنزيما ونصري وبن عرفة «اللاعبين السمر»، لكن «ليلة الخسارة الكبيرة» أصابت أيضاً غوركوف «اللاعب الأبيض»، بعدما رضخ دومينيك لمطلب «إزاحته» فكان ما كان. ويتهم الإعلامي الرياضي بيار مينيس فرانك ريبيري وأنيلكا بأنهما وراء «هذا الانقلاب»، مستنداً إلى تسريبات من بعض اللاعبين. ويصف على مدونته العلاقات بين اللاعبين بأنها «كارثية».
ويشرح بعض تقنيي اتحاد كرة القدم لـ«الأخبار» أن «الأجواء مثقلة بالنزاعات»، وأن «غوركوف يدفع ثمن عدم حب البعض له»، مع اعترافهم بأنه في الأسابيع الأخيرة لم يكن على المستوى الرياضي المطلوب. ويدخل المعلق الرياضي جيرار دافي في صحيفة «Le Temps» (الزمن السويسرية) في زاوية العنصرية الاجتماعية بالإشارة إلى أن التباعد هو الاختلاف الكبير بين نشأة غوركوف، الذي ترعرع في بيئة «بورجوازية»، فوالده أستاذ جامعي، بعكس آخرين أتوا من الضواحي. ووصل الأمر بالمعلق إلى مقارنة لغة اللاعبين وطريقة حديثهم.
لا يقتصر الخلاف على «أصل المنشأ» بل يطال أيضاً «لون البشرة»
وفي صحيفة «لوموند»، ذكر دافي أن الخلاف لا ينحصر فقط بين «اللطيف غوركوف والشرير ريبيري»، بل يشمل أيضاً حارس المرمى هوغو لوريس ووسط الدفاع جيرمي طولالان وحتى سيدني غوفو، لأنهما آتيان من مناطق ريفية بعكس الباقين الذين ترعرعوا في ضواحي المدن الكبرى.
ويؤكد إيرك بليدرمن، في تعليق في صحيفة «Le Equipe» الرياضية الشهيرة، أن غياب الرغبة في التخاطب والتمازج خارج الملعب يمكن أن تكون وراء غياب «الرغبة في اللعب معاً... والربح».
ولا يقتصر الخلاف على «أصل المنشأ»، بل يطال أيضاً «لون البشرة». وقد اعترف غوفو، في مقابلة مع الصحيفة نفسها، بوجود طوائفية (communautarisme) مبنية على لون البشرة. ورداً على سؤال للصحافي فانسان دولوك عمّا إذا كان ثمة تباين بين اللاعبين بسبب «التباعد الثقافي»، وهو ما يؤجج العشائرية، أجاب غوفو: «في الحياة اليومية نبحث عن صلات متشابهة للتقارب، ولون البشرة هو من أول العوامل التي تخطر بالبال».
ويكتب مينيس أن مدرب المنتخب كان على علم بالتوتر الشديد بين «عشائر الفريق». ورأى في تغييبه لبنزيما ونصري وبن عرفة، أنه استطاع استباق «المشكل» باستبعاد «الثلاثي العربي»، وخصوصاً أن إعلان أسماء لاعبي الفريق جاء في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا على وقع خطاب متشدد تجاه الضواحي والمهاجرين. وكانت حكومة ساركوزي قد رمت في أتون الجدل مسألة البرقع، ومن هنا يقول دافي إنه «ليس من سبيل الصدفة أن دومينيك لم يشرك الثلاثي العربي» في هذه الظروف.


فتحت الخسارة الفرنسية في مونديال جنوب أفريقيا واستبعاد اللاعبين ملف «الجنسية المزدوجة» في الحقل الرياضي بالنسبة إلى كريم بنزيما وسمير نصري. ووضعت على المحك القوانين التي تسمح للاعب المزدوج الجنسية باختيار «فريقه الوطني». وقد فضل الاثنان اختيار فريق فرنسا «للعب في بطولة العالم»، بينما من المؤكد أنهما لو اختارا الفريق الجزائري لكان اليوم، من دون أدنى شك، في أفريقيا الجنوبية مثلما هو وضع مراد مغني وحسان يبدا.