توتّر يعود إلى الحقبة السوفياتية تغذّيه الانقسامات العرقيّةديما شريف
ما يحدث في قرغيزستان اليوم يشبه التطهير العرقي. هذا ما يبدو على الأقل. فآلاف الأوزبك الذين يعيشون في جنوب البلاد يفرّون باتجاه أوزبكستان هرباً من القتل والتشريد اللذين يتعرضون لهما على أيدي مواطنيهم القرغيز منذ نحو أسبوع. الأسباب المباشرة سياسية بحتة. فالجنوب القرغيزي يدين بالولاء لرئيس الجمهورية السابق كرمان بيك باكييف ويريد الانتقام من الأوزبك الذين أيدوا خلعه ووقفوا إلى جانب الحكومة المؤقتة في العاصمة بشكك.
أمل الأوزبك أن يمنحهم وصول دم جديد إلى السلطة في هذا البلد الصغير حقوقاً أكبر من تلك التي تمتعوا بها في ظل حكم باكييف. لكنّهم سيصابون بخيبة أمل. فمسودة الدستور الجديد الذي سيعرض على الاستفتاء في 27 الجاري لا تتضمن اعترافاً باللغة الأوزبكية كلغة رسمية ثانية، واستبدلت بالروسية، فيما لم تلحظ تخصيص مناصب لهم لتعويضهم عن الحرمان السياسي الذي عاشوه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
ورغم أنّ الاشتباكات بدأت تهدأ، كما أكدت الحكومة القرغيزية، إلا أنّ المواجهات ستعود. هذا ما يؤكده المراقبون وما يشهد له التاريخ. فالتداخل السكاني في جنوب هذا البلد الآسيوي، الذي لا يملك الغاز والنفط مثل جيرانه، ينذر باضطرابات قد تتجدد من وقت إلى آخر كما حصل في السنوات العشرين الماضية.
المشكلة تقع في سهل فيرغانا الخصب، الذي تتشارك به ثلاث دول: قرغيزستان، أوزبكستان وطاجيكستان. وبعدما قسم الاتحاد السوفياتي، في عهد ستالين، السهل بين الدول الثلاث، من دون تحديد للحدود، بسبب عدم أهميتها آنذاك، عاد وحدد ثمانية جيوب تتوزع عليها. يعيش في هذه الجيوب سكان قرغيز في أوزبكستان وطاجيكستان، أوزبك في قرغيزستان وطاجيكستان، وطاجيك في قرغيزستان وأوزبكستان. أي بقيت أقليات عرقية من كلّ دولة رهينة لدى الدولتين الأخريين. لكنّ الجيوب الأوزبكية في جنوب قرغيزستان، وهي شاخيماردان وسوخ وقالاشا وجانغايل، هي التي شهدت القلاقل والمواجهات منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. ففي أيامه الأخيرة، اضطر الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشيف إلى إرسال قوات إلى جنوب قرغيزستان، بعدما اندلعت مواجهات بين القرغيز والأوزبك نتيجة مطالبة هؤلاء بالاستقلال عن بشكك. وذهب ضحية المواجهات آنذاك أكثر من ثلاثمئة قتيل.
وفي تسعينيات القرن الماضي، عادت المشاكل مجدداً. وتبادل الطرفان الاتهامات، فكانت بشكك تتهم الأوزبك في الجنوب بأنّهم يدينون بالولاء للرئيس الأوزبكي إسلام كاريموف أكثر من ولائهم للدولة التي تحتضنهم. وبعدما قامت مجموعة إسلامية متشددة، تسللت عبر الحدود من الجنوب القرغيزي، بتفجيرات في العاصمة الأوزبكية طشقند في 1999، انتقل التوتر إلى مستوى الدولتين وأغلقت الحدود بينهما، ما زاد من عزلة الأوزبك في الجنوب القرغيزي، رغم أنّهم يمثّلون خمسين بالمئة من سكانه، و14.5 بالمئة من سكان قرغيزستان ككلّ.
ومنذ ذلك الوقت، زادت معاناة الأوزبك في التنقل، ففرضت حواجز خارج مناطقهم، ما عزل بعضها وسبّب في زيادة الفقر في بعضها الآخر. وبعد إغلاق الحدود المتكرر بين الدولتين، بدأ يسود بين الأقلية الأوزبكية في قرغيزستان شعور بأنّه غير مرحب بها في كلا البلدين.
خلال العقد الماضي، تكررت حوادث الاشتباكات بين السكان الأوزبك وعناصر الشرطة والحدود القرغيز، وخصوصاً عند محاولة السكان التنقل بين جيب وآخر أو الانتقال إلى ما وراء الحدود الأوزبكية للاستشفاء والتعليم. وحين حاولت السلطات في طشقند إيجاد حلّ ما لرعاياها المنتشرين في جنوب قرغيزستان عبر إنشاء ممرات تربط بين الجيوب وأوزبكستان، رفضت بشكك بحجة أنّ ذلك سيعرقل حركة سكانها.
وزادت التوترات منذ سنتين حين زادت طشقند أسعار النفط الذي تبيعه إلى بشكك، فردت هذه الأخيرة بعزمها على إنشاء سدود وشركات لتوليد الطاقة الكهربائية على أنهار تتشارك فيها مع جارتها، ما أدى إلى نقص حاد في الموارد المائية في أوزبكستان.
توتر دفع ثمنه دائماً الأوزبك في سهل فيرغانا نتيجة صب السكان القرغيز غضبهم من طشقند على جيرانهم الأوزبك.
إذاً، هي خليط من المشاكل العرقية والسياسية التي أذكت الخلاف بين القرغيز والأوزبك. لكنّ الأستاذ في جامعة كولومبيا ألكسندر كولي، وهو خبير في آسيا الوسطى، يضيف إلى ذلك أسباباً طبقية واقتصادية. فالاختلاف العرقي ليس كبيراً بين القرغيز والأوزبك، وهم يتشاركون الديانة نفسها ولغاتهم ليست مختلفة عن بعضها البعض. لكنّ الأوزبك كانوا عبر التاريخ من المزارعين، فيما كان القرغيز من البدو الرحل. وترجم ذلك اليوم عبر اختلافات طبقية بين الاثنين. فالأوزبك في الجنوب هم الأغنياء ويملكون معظم الشركات ويسيطرون على القطاع الاقتصادي، فيما القرغيز يعانون من الفقر. وربما الدليل على الحقد الذي يشعر به القرغيز تجاه الأوزبك بسبب هذا الوضع الطبقي هو حرقهم فور بدء الاشتباكات مبنى «جامعة صداقة الشعوب»، التي بناها رجال أعمال أوزبك في جلال آباد.
وهكذا تجد الحكومة المؤقتة، التي قررت تنصيب رئيستها روزا أوتونباييفا رئيسة بالوكالة للبلاد حتى كانون الأول 2011، في وضع صعب. فهي تحاول منذ سقوط نظام الرئيس السابق باكييف استمالة مناصريه في الجنوب القرغيزي، وهي بالتالي لا تستطيع الوقوف إلى جانب الأوزبك في ما يحصل كي لا تخسر القرغيز. لكنّها إذا بقيت صامتة فإنّها تخاطر بثورة أوزبكية شاملة عليها من كلّ مكان في البلاد.