بول لارودي ليس نجم سفن كسر الحصار عن غزة. هو إنسان أراد التواصل مع صديقه الإنسان في غزة، لأنه يحتاج إليه. أراد أيضاً مقاومة إسرائيل، الدولة التي ظلمت
ربى أبو عمو
اختار بول لارودي من شعارات الحياة، «المقاومة». لم يرث فعل المقاومة عن جده أو أبيه. بل هي الصدفة التي جعلته يزور فلسطين عام 1965، فيكتشف أن إسرائيل التي ترد في الصحف الأميركية، حقيقة كاذبة. هذا «الكذب» فرض على بول مسار حياة مختلف مكرس للمقاومة من دون أن يتعارض مع عيشه حياة طبيعية كسائر الأفراد في العالم. فهو كان أستاذاً متقاعداً في علم الألسنيات، وتقنياً متخصّصاً في آلة البيانو منذ نحو 20 عاماً. متزوج لبنانية وأب لولدين. ورغم قلق عائلته الدائم عليه، إلا أن ابنه أفصح له من فتره عن اعتزازه بنشاطه، قائلاً: «أنا فخور بك».
يُحكى الكثير عن بول لارودي. يُقال إنه عراب وصاحب فكرة الإطلاق المتواصل للسفن إلى غزة لكسر الحصار عنها. إلا أنه فضّل التخلي عن النجومية لمصلحة الإنسانية. فهو يبدو كأولئك المواطنين الودودين، العاديين، الذين يعيشون الحياة ببساطتها، ولا تغريهم نجومية الإعلام رغم جاذبية الحقل الذي يتفاعل من خلاله والقضية التي يناضل لأجلها. فالمهم بالنسبة إليه كسر الحصار وإيصال المساعدات إلى غزة، لا رفع شارات النصر أمام الكاميرات بعد الخروج من الاعتقال السريع.
يعود بول إلى عام 1965، حين ذهب لزيارة والده في عمّان. اغتنم الفرصة وذهب إلى الضفة الغربية التي كانت تحت سيطرة الأردن حينها. هناك، التقى صديقه أمين محمد، وعادا ليدرسا معاً في الولايات المتحدة. ومن خلاله، اكتشف بول الفرق بين «الكذب والصدق». واكتشف مشروع الدولة العنصرية، المتجسد في إسرائيل.
بدأت علاقته مع السفن عام 2006. قصد منطقة اللد لإطلاق مشروع عمل، إلا أن الإسرائيليين منعوه من الدخول، وطردوه إلى الأردن بعد اعتقاله لمدة أسبوعين. إلا أنه خلال فترة الاعتقال هذه، لم ينصع للإسرائيليين. أصر على الدخول، وهددهم قائلاً: «إذا أصررتم على وضعي بالطائرة بالقوة، فسأخلع كل ثيابي، وحينها سيطلب كابتن الطائرة إخراجي وإعادتي إلى السجن». إلا أن محاولاته فشلت، فعاد إلى الأردن. وقبل مغادرته إلى الولايات المتحدة، هاتفه سماح إدريس ودعاه إلى لبنان لإلقاء محاضرة. وكانت هي المرة الأولى التي يقصد فيها بول المناطق الحدودية. وغادر إلى بلاده قبل اندلاع الحرب بنحو ثلاثة أيام. اتصل به زملاؤه وقالوا له إننا ذاهبون إلى لبنان للمساعدة، فذهب معهم.
وبعد انتهاء الحرب، استمر الحصار الإسرائيلي البحري على لبنان. وفي جلسة له مع بعض الأصدقاء، كانوا يفكرون في كيفية خرق هذا الحصار، قال أحدهم: «لمَ لا نسيّر سفينة لبنانية؟». أُعجب الجميع بالفكرة. وكان السؤال الثاني: «إلى أين نذهب بالسفينة؟»، فردّ بول: «إلى قبرص؟»، وكانت التساؤلات مجدداً: ما جدوى ذهابها إلى قبرص؟ ماذا سنحقق؟ فرد بول: «إلى غزة».
فشلت محاولة كسر الحصار على لبنان، فعاد بول إلى واشنطن، وعاد البحث عن وسيلة لكسر الحصار على غزة، فطرح أحد الناشطين الحقوقيين فكرة السفن، وبدأ الإعداد. ورغم نجاحه في الوصول إلى غزة مرتين، إلا أنه كان لأسطول الحرية طعمه الخاص لأن أناساً استشهدوا. ويقول إنه «لن يكون هناك جواب واضح عن سبب قتل الناشطين. ربما السبب هو أن إسرائيل لا تمانع موتهم، بل إنها فضلت موتهم».
لم يكن بول خائفاً. كان لديه شعور بأن الإسرائيليين لن يقتلوه، لأنه لن يكون لديهم تفسير لسبب قتل رجل أميركي. وعلى السفينة، مارس اللاعنف. طلب منه الإسرائيليون أن يجلس، فوقف. طلبوا منه السكوت، فتكلم. سألوه عن اسمه، فرفض الإجابة. أمروه بأن يرتدي قميصاً لتغطية آثار الضرب، فرفض. وحين أرادوا اعتقاله، رمى نفسه في البحر، وظل يقاومهم مدة ساعة ونصف ساعة في المياه، رافضاً الخروج لأن الهدف بالنسبة إليه ليس الاعتقال والرجوع خائباً، بل اجتياز مرفأ أسدود والوصول إلى غزة.
أراد الإسرائيليون ترحيله إلى إسطنبول، فرفض وطلب التحدث إلى محاميه. أراد البقاء إلى أن أصر اليونانيون على اصطحابه معهم إلى بلادهم.
يعرف بول أن للفلسطينيين قضية حقّ، لمجرد أن رحلوا من بلادهم بالقوة. ورغم ذلك، فهو لا يكره الإسرائيليين، الذين يصف جنودهم «بالأطفال». هو ليس يمينياً ولا يسارياً ولا وسطياً. هو إنسان يخاطب غيره الإنسان، من خلال الإنسانية. وها هو الآن يستعدّ للإبحار مجدداً إلى غزة على سفينة حنظلة. «فهم يحتاجون إليّ»، وخصوصاً أنه يخشى «نكبة جديدة».