مهما حاولت دولة الاحتلال أن تطمس حقيقة ما جرى فجر الاثنين على متن السفينة التركية، فلن تفلح؛ فالأحياء سيفضحون مرة جديدة للعالم جرائمها. هذا ما فعلته الناشطة يارا لي
نيويورك ــ نزار عبود
لم تستطع يارا لي أن تكتم دموعها وهي تستذكر دماء الشهداء الذين سقطوا على متن «مافي مرمرة» نهاية الشهر الماضي على بعد 72 ميلاً عن ساحل فلسطين. لقد حملت الناشطة البرازيلية الأميركية الكورية، المنتمية إلى منظمة «ثقافة المقاومات»، لجمعية مراسلي الأمم المتحدة تفاصيل ما تعرض له نحو 700 ناشط من 35 دولة كانوا على متن السفينة التركية.
ونجحت يارا بذكاء وحنكة أن تخفي شريطاً مصوراً تحت ملابسها الداخلية لمدة ثلاثة أيام من الاعتقال التعسفي وتوصله إلى العالم لفضح حقيقة الاحتلال، يظهر صوراً لكرّاس حمل كل جندي إسرائيلي نسخة عنه، يتضمن صفحات وصوراً للشخصيات الهامة على متن السفينة التركية، بينها صور للمطران هيلاريون كابوجي، ولنائب ألماني عجوز وشخصيات أوروبية أخرى.
وفُهم منه أنهم حذروا جنودهم من التعرض لتلك الشخصيات، بينما سمحوا لأنفسهم بقتل غيرها. الفيلم الذي شاهدته «الأخبار» أظهر أن ركاب السفينة كانوا من المدنيين العزل ويتحدثون العديد من اللغات. وقالت يارا لي إن الناس كانوا في منتهى البساطة ويحلمون بالوصول إلى غزة ولم يتوقعوا أي هجوم عند الرابعة فجراً، بل كانوا ينتظرون في أسوأ الأحوال أن تمنعهم سلطات الاحتلال من بلوغ الساحل، أو تسحبهم إلى أحد الموانئ.
المشاهد أظهرت شيوخاً وشباناً مصابين والدماء تغطي أجسادهم وأرض المركب. كانت هناك فتاة تنادي بالإنكليزية بمكبرات الصوت باتجاه زوارق «زودياك» الإسرائيلية المدججة بجنود النخبة والسلاح تطالب بوقف إطلاق النار، موضحةً «ليس بيننا سوى مدنيين عزّل. إننا في حاجة إلى إسعافات سريعة. لدينا جرحى ينزفون».
شوهد الجنود ينزلون من طائرات المروحية. ولم يستطع المصور البقاء مكشوفاً، فنزل إلى الطبقات السفلية، وإذا به يواجه بصور الجرحى. وكانت هناك قذائف متفجرة تصيب السفينة وينزل منها صباغ أحمر يشبه الدماء. اعتقد البعض أنها دماء قبل أن يشرح أحدهم أنها «دماء صناعية». وظهر في الشريط أيضاً جندي إسرائيلي أُلقي القبض عليه بعد مواجهة مع نشطاء أتراك استخدموا عصي المكانس وبعض الأدوات المتاحة لمقاومة الهجوم. واقتيد الجندي الأسير إلى داخل السفينة حيث عولجت جراحه.
قالت لي: «كان بإمكاننا القضاء عليه بسهولة. لكننا لم نفعل. حرصنا على أن نعامله بإنسانية كما كنا نتوقع أن نعامَل». بعد توقف القصف والقنص، اعتُقل الأحياء وتُرك الجرحى ينزفون حتى قضى بعضهم. شوهد أحد الجرحى الأتراك مبتور الساق ويتلقى إسعافات بالبصل المقطع. وشوهد آخر ينازع حتى الموت.
قالت لي إن الجنود استولوا على كامل مقتنياتهم، أجهزة الهاتف والكمبيوتر وآلات التصوير، وحتى الدفاتر الصغيرة. ونُقل الجميع من ميناء أسدود إلى معسكر أُعدّ خصيصاً. وهناك سمعوا أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان هدد بإعلان الحرب إذا لم يُفرَج عن قائد إحدى الجمعيات الخيرية. ثم طلب الإسرائيليون من كل راكب توقيع إفادة بأنه اخترق المياه الإسرائيلية بعد الإفراج عنهم.
ولاحظت يارا أن عدداً من الأفراد اختفوا ولم يرحلوا معهم أو يسجلوا في عداد المفقودين. ورجّحت أن يكون هؤلاء من المندسين.
ولم تفاجأ لي بعدم إدانة دولتها الولايات المتحدة للهجوم لكونها تحمل الجواز الأميركي إلى جانب البرازيلي. وأكدت أنها مصممة على إطلاق سفينة جديدة هذه المرة من البرازيل إلى غزة، وأنه بمجرد وضع إعلان على صفحة منظمة «ثقافة المقاومات» قبل أيام سجّل أكثر من 50 شخصاً أسماءهم، وتعهدوا التبرع بالمال للتوجه إلى فكّ الحصار عن غزة.
وقالت يارا إنها ستقاضي الإسرائيليين لاختطافها من المياه الدولية وتهديد حياتها، واعتقالها ومضايقتها وفريق التصوير، وسرقة معداتها التي كانت تساوي نحو 150 ألف دولار، إلى جانب انتهاك حقوقها كإنسان.
وعقدت لي مؤتمراً صحافياً، غصّ بالمدعوين وكان بينهم الكثير من المراسلين الإسرائيليين الذين التزموا على غير عادتهم الصمت المطبق. وحضر المفكر الأميركي نورمان فنكلستين الذي علق على الشريط لـ«الأخبار» بالقول: «هذه الوثيقة دامغة. تظهر إلى أي مدى تبحث إسرائيل عن منقذ لاستعادة هيبتها التي تمرغت بالوحل. حاولت استعادتها في لبنان ثم في غزة وفي دبي لكنها أخفقت فيها جميعاً وجرّت أذيال الخيبة». وأعرب عن خشيته ارتكاب إسرائيل لعملية متهورة تجرّ المنطقة إلى حرب طاحنة كاغتيال الأمين العام لحزب الله أو تفجير صراع مع إيران.