استطاعت باكستان، على مدى عقود من التمزق الأفغاني وتخبطه بين حرب أهلية وأخرى خارجية، ترسيخ نفوذها داخل أفغانستان كي تُديرها في فلكها في صراعها مع الهند؛ تصدّت للغزاة، وإن كان عبر الدعم والتسليح، بدءاً من السوفيات، ورغم أنها حنت رأسها لغزو 2001، فإنها تركت بين يديها أوراقاً ستُحرّكها على طاولة تقاسم الكعكة الأفغانية بعد إنهاء الحرب
شهيرة سلّوم
الحرب في أفغانستان أثبتت فشلها. قد تكون إدارة إنهائها مسألة وقت ليس إلا، لتصل إلى النهاية الحتمية: انسحاب ومصالحة. ولهذا بدأت تنصب جهود النافذين الإقليميين باتجاه نيل أكبر قدر ممكن من الكعكة الأفغانية. الولايات المتحدة تريد انسحاباً يحفظ لها ماء الوجه، وبينما تقول جهراً إنها لا تتسامح مع من يتحالف مع تنظيم «القاعدة» ومن يدور في فلكه، لكنها في الوقت نفسه تدفع باتجاه هذه المصالحة، على أن تنتهي بشريك في السلطة تحركه كيفما تشاء ويضمن لها نفوذاً كلفها مليارات الدولارات ومئات القتلى من خلال حرب قاربت الأعوام العشرة.
إسلام أباد أدركت قبل واشنطن، بخبرتها الطويلة في الاحتكاك مع جارتها وفهمها لطبيعة التركيبة الاجتماعية والديموغرافية الأفغانية، أن الحوار والمصالحة وتقاسم السلطة حلّ لا مفرّ منه، وأن الحسم العسكري وإقصاء طرف أساسي في البلاد، لن يكون حلاًّ نهائياً، هذا فضلاً عن استحالة الوصول الى هذا الحسم.
ولما بدأت تدنو الخاتمة، تسارعت الجهود الباكستانية كي تكون جزءاً أساسياً من الحل، وأن تنال حصتها من الكعكة الأفغانية، عارضةً نفسها كوسيط مع معظم الحركات المتمردة وأمرائها.
وعينا إسلام آباد، وهي تُثابر على وساطتها، مسلّطة نحو نيودلهي، عدوتها التقليدية اللدود، كي تقطع عليها الطريق في أي مسعى لإقحام نفسها في الإشراف على «أفغانستان ما بعد الحرب»، ولا سيما بعد التقارير التي تحدثت عن خطة بريطانية لضم الهند وبعض الدول الأخرى في المظلة الأمنية لأفغانستان (كان ذلك قُبيل مؤتمر المانحين الذي استضافته العاصمة البريطانية في بداية العام).
على أثر هذه التقارير، حصل اجتماع ثلاثي بين أفغانستان وباكستان وإيران، على مستوى وزراء الخارجية، أكد استبعاد أي دخيل (في إشارة الى الهند) في أي تسوية للحل في أفغانستان وأن الدول الثلاث قادرة على تحقيق أهداف السلام والاستقرار في المنطقة.
وفي إطار هذه الوساطة، عرضت باكستان مفاوضة شبكة أمير الحرب سراج الدين حقاني (الحركة الحليفة لها في المواجهة مع الهند، استُخدمت لاستهداف المصالح الهندية داخل أفغانستان) المتحالفة مع «القاعدة»، والتي تشن هجمات مميتة ضدّ القوات الأميركية، كي تكون جزءاً في ترتيب لتقاسم السلطة.
وانطلق قائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق كياني ورئيس الاستخبارات الباكستانية الجنرال أحمد شوجا باشا في حركة مكوكية بين إسلام آباد وكابول، ليؤكدا للرئيس حميد قرضاي أنهما يوافقانه في التقدير أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تربح، وأن أفغانستان ما بعد الحرب يجب أن تتضمن شبكة حقاني.
كذلك جرى اجتماع في مقرّ الاستخبارات الباكستانية «آي أس آي» خرج بالتصور الآتي: الحملة العسكرية في أفغانستان خاسرة، وحركة «طالبان» تزداد قوة، رغم إرسال تعزيزات إضافية. وقال مسؤولون باكستانيون إن الانفتاح على قرضاي سببه اقتناع الباكستانيين بأن إدارة باراك أوباما تفتقر الى «الذخيرة في حزامها» للقتال.
ليست شبكة حقاني فقط ما حملته اسلام آباد في جعبتها. إذ ذكر مسؤولون أفغان أن الجنرال كياني تقدم للتوسط في صفقة مع الملا عمر، أمير «طالبان». وأرسل أيضاً في آذار الماضي مبعوثين الى كابول لمقابلة أمير الحرب جلال الدين حكمتيار، وحملوا له عرضاً يتضمن 15 بنداً (العرض استبق مؤتمر «جيرغا السلام» الذي أراد قرضاي أن يجمع الفرقاء الأفغان في إطار مشروع لتقاسم السلطة كجزء من إنهاء الحرب، لكنه فشل).

سرّ النفوذ الباكستاني

ما مصدر هذا النفوذ الذي تحظى به إسلام آباد، وتحديداً مؤسساتها العسكرية والاستخبارية، داخل شبكة الحركات المتمردة الأفغانية، حتى تقدم نفسها كوسيط معهم، إن لم يكن التفاوض باسمهم؟
إنها العلاقة التاريخية التي تعود الى إنشاء حركة «طالبان» في أفغانستان، ودعم «المجاهدين»، مع حليفتها واشنطن، لمحاربة السوفيات. والعلاقة مع الحركات المسلحة الأخرى في الداخل الباكستاني والخارج لاستخدامها ضدّ المصالح الهندية.
وهي علاقة لم تتوقف، بل تطورت، وسمحت لإسلام آباد بأن تقوم بدور مزدوج في المنطقة، لكنها زعزعت في الوقت نفسه الثقة بينها وبين حليفتها واشنطن. ففي حزيران الماضي، صدر تقرير عن معهد «لندن سكول أكونوميكس» تحدث عن أن الاستخبارات الباكستانية متورطة في تمويل وتدريب «طالبان» الأفغانية وبوتيرة أكبر من السابق. وقال قادة من الحركة إن «آي أس آي» تحضر اجتماعات المجلس الأعلى للحركة «شورى الكويتا».
واستند كاتب التقرير، مات والدمان، إلى شهادات 9 من قادة «طالبان» الميدانيين، للتوصل الى هذه الخلاصة. وقال إن الاستخبارات تقود وتتابع وتمول (إضافة الى تمويلات خليجية) حملة المتمردين بمجملها، وإن هذا الدعم أبعد من مجرد «دعم محدود أو ظرفي» كما هو معروف، بل هو «سياسة استراتيجية رسمية للوكالة وشاملة جداً» تهدف الى تقويض النفوذ الهندي في أفغانستان، وهي جزء من الدور المزدوج الذي تقوم به «آي أس آي» في المنطقة».
حتى إن التقرير تحدث عن روابط بين مسؤولين رفيعي المستوى في إسلام آباد بحركة «طالبان». وقال إن الرئيس آصف علي زرداري التقى مسؤولين رفيعي المستوى من الحركة داخل السجن ووعد بإطلاق سراحهم، وأخبرهم بأن اعتقالهم أتى فقط بسبب الضغوط الأميركية.
وخلص التقرير الى الآتي: «من دون حصول تغيير في تصرفات باكستان، سيكون من المستحيل على القوات الدولية والحكومة الأفغانية تحقيق تقدم ضد المتمردين».
لكن السؤال البديهي هنا: إن كانت إسلام آباد على وئام مع حركة «طالبان»، فلماذا تتعرض لهجمات، وتشنّ حملة عسكرية ضدّ الفرع الباكستاني من الحركة، في وقت تعدّ فيه شريكة أساسية في الحرب على الإرهاب، وتتلقى سنوياً ما يزيد على مليار دولار من واشنطن؟
وإن كان الجواب في التمييز بين حكومة إسلام آباد المدنية وجهازها الاستخباري، فإن مراكز «آي أس آي» لم تسلم بدورها من الهجمات (هجوم لاهور في أيار من العام الماضي الذي استهدف ضباطاً في الوكالة، وهجمات سابقة في روالبندي وإسلام آباد).
لكن لا يمكن تفسير الدور المزدوج الذي تقوم به الاستخبارات الباكستانية في المنطقة بمعزل عن الحقائق التي تبين أن هناك فصائل مسلحة متعددة تنشط بين أفغانستان وباكستان، بعضها يوالي إسلام آباد ويدين لها، وبعضها الثاني أداة في يد الاستخبارات الباكستانية تحركه كيفما تشاء ضد أعدائها، وبعضها الثالث يختلف معها ويحاربها لفرض شريعته. ومن هنا أهمية التمييز بين «طالبان» الأفغان بزعامة الملا عمر في كويتا (انبثقت منها «نيو طالبان» بعد الغزو، لكنها تنشط في المناطق القبلية الأفغانية والباكستانية، لمقاتلة الحكومة الأفغانية والقوات الأطلسية وكل من يواليهما)، وبين «طالبان» حكيم الله محسود الباكستانيين (بشتوني)، المسؤول عن منطقة خيبر وقوروم وأوركزاي، وبين حركة نفاذ الشريعة المحمدية بزعامة مولانا فضل الله.
ومن بين هؤلاء، فإن «طالبان» (ومعها «نيو طالبان») الملا عمر هي من تُدين بالولاء لـ«آي أس آي» (أنشأتها في 1994 عندما كانت بنازير بوتو رئيسة حكومة باكستان)، تقاتل القوات الأطلسيّة في أفغانستان، ولم تتورط في هجمات داخل الأراضي الباكستانية سواء ضد الشرطة أو الحكومة أو وكالة الاستخبارات.
كذلك ينبغي التمييز بين «طالبان» البنجاب، الذين يشنّون هجمات على الجيش الباكستاني، ونظرائهم البشتون، (بقيادة محسود) الذين نشطوا بعد الهجوم الدموي الذي شنته القوات الباكستانية على المسجد الأحمر في حزيران 2007.
وهناك مجموعات مسلحة أخرى، شأن حركات الجهاد الإسلامي والمجاهدين ولاشكر طيبة وجيش محمد جانغفي، الجيش الباكستاني لا يملك سلطة عليها كلها. لاشكر طيبة، مثلاً، هي الأداة المفضلة لـ«آي أس آي» تستخدمها ضد الهند، ولم يسبق لهذه الجماعة أن هاجمت أهدافاً باكستانية، على عكس جيش محمد لاشكر جانغفي.

حيرة واشنطن

أين هي واشنطن من تلك الجهود؟ في العلن، تقول واشنطن إنها تعارض الحوار مع الحركات «الإرهابية» ولا تريد أن تتسامح معها. لكنها تعمل بالسر على دفع باتجاه الحوار، كما أكدت «ذا غارديان» قبل يومين نقلاً عن مسؤولين أميركيين.
لكن العاصمة الأميركية لها مخاوفها. هي تخشى من أن يؤدي اتفاق سلام منفصل بين الأفغان والباكستانيين الى منعها من تحقيق هدفها الأساسي ألا وهو عزل تنظيم «القاعدة» وحرمانه جناته الآمنة. لذلك يجد صناع القرار في واشنطن من الصعوبة رؤية شبكة حقاني في أي صفقة محتملة لتقاسم السلطة في كابول، فهم غير مقتنعين بإمكان حدوث افتراق بين «القاعدة» وحلفائه.

تعارض واشنطن الحوار مع الحركات «الإرهابية» علناً، لكنها تعمل بالسر على الدفع باتجاهه

وتبدو واشنطن أنها لا تريد شبكة حقاني في أي تسوية محتملة. وذكرت «نيويورك تايمز» قبل أيام أن الجنرال ديفيد بترايوس يريد وضع الشبكة على اللائحة الإرهابية السوداء. وفي الوقت نفسه، هي مقتنعة بأن التسوية السياسية أمر لا مفر منه لإنهاء الحرب، لكنها ترى أن مفاوضة المتمردين يجب أن تجري بحذر.
ولمخاوف واشنطن ما يبررها. رغم أن المسؤولين الباكستانيين أكدوا أن شبكة حقاني، أو غيرها، مستعدة لعقد صفقة تشمل فك ارتباطها مع «القاعدة»، على أساس أنها قدمت للتنظيم 9 سنوات من الحماية وهذا يكفي. لكن هل تستطيع الشبكة، أو غيرها، في الواقع فك الارتباط الوثيق بالتنظيم الذي يتشارك مع العديد من الفصائل في المقاتلين والأموال والموارد؟ وعلى افتراض أن ذلك حصل، وحان وقت الفراق، أين هو البديل الذي ستنتقل اليه كوادر «القاعدة»؟ أم أن التهديد لم يعد من قيادات الصف الأول بل من المجموعات «المتأصلة ذاتياً» التي تشن هجماتها في كل مكان؟
ولا بد من الإشارة الى أن مشروع المصالحة لم يبدأ مع باراك أوباما. ففي الأشهر الأخيرة من ولاية جورج بوش، صدرت مواقف عن مسؤولين، كوزير الدفاع روبرت غيتس وقائد الحرب بترايوس، تحدثت عن أن الإدارة الأميركية تعيد ضبط استراتيجيتها الأفغانية للتعامل مع «طالبان». وقتها ولدت القناعة بأن التمرد الأفغاني لا يمكن هزيمته عسكرياً وأن صفقة سياسية لا بد منها لإنهاء الحرب.


واشنطن تطمئن نيودلهي

في مقابل الدور الباكستاني النشط لإرساء حل للنزاع الأفغاني، حاولت واشنطن، أمس، تهدئة مخاوف غريمة إسلام آباد النووية، نيودلهي، وطمأنتها بأنه سيكون لها دور في إحلال الاستقرار في أفغانستان، وذلك على لسان المبعوث الأميركي الى أفغانستان وباكستان، ريتشارد هولبروك (الصورة) الذي أكّد أيضاً أن السلام لا يمكن أن يتحقق من دون باكستان بسبب تأثيرها على قيادة «طالبان». وقال هولبروك من نيودلهي «لا يمكنني أن أتخيل لماذا يفكر أي شخص في أن دور الهند سيتقلص إذا تحسنت علاقتنا مع باكستان. هذا من مصلحة الهند». وتخشى الهند أن تعطي الخطة الأفغانية التي أقرّتها قوى عالمية العام الجاري لمصالحة «طالبان» تأثيراً أكبر لباكستان في عملية السلام.
ميدانياً، قُتل جنديان أطلسيان في تحطم طائرة في الجنوب، حسبما أعلنت القوة الدولية «إيساف»، من دون أن تحدد هوية القتيلين أو مكان الحادث.
(رويترز، أ ف ب)