مرةً جديدة، يبدو أنّ تركيا عاجزة عن أن تكون «قوة إقليمية عظمى»، وهي تعاني هذا الكمّ من المشاكل الداخلية المزمنة. و«جيش المليون جندي» إحدى أكبر العقبات الداخلية، وخصوصاً عندما ينكشف على قدر كبير من الفساد
أرنست خوري
تهزّ الجيش التركي هذه الأيام، فضائح من العيار الثقيل، بعضها يوازي خطورة الزلزال الأكبر الذي يعيشه الجيش منذ عام 2007، أي مسلسل عصابات «إرغينيكون»، التي يُحاكَم فيها عدد كبير من ضباط الجيش، وكبار قادته بتهم ارتكاب جرائم وتصفيات وتدبير مؤامرات انقلابات باتت تُعرَف بـ «الدولة العميقة». «وكأنّ مصيبة إرغينيكون» لا تكفي، فإذا بمجموعة هزّات جديدة تضرب الجيش وقائده إلكر باسبوغ، الذي لم يعد يملك وقتاً كافياً لتلميع صورته قبل مغادرته منصبه. وقد تكون هذه من المرات النادرة للغاية أن يُكشَف فيها «عملاء» لحزب «العمال الكردستاني» داخل صفوف المؤسسة العسكرية.
وكانت صحيفة «بوغون» سبّاقة في الكشف عن نقاب الفضيحة الجديدة، الأسبوع الماضي، قبل أن تصبح القصة على صفحات جميع الصحف، وأثير كل التلفزيونات والإذاعات التركية. القصّة غريبة: في 10 تشرين الأول 2007، كانت المقاتلات التركية تشنّ غارات عنيفة على أحد مواقع «العمال الكردستاني». وأمام عنف هذه الغارات، اتصل ضابط في سلاح الجوّ (الملازم فرات ش.)، متمركز في قاعدته العسكرية، عبر الهاتف الثابت بهاتف خلوي لضابط طيّار (العقيد سلجوك ش.) زميل له، وقال له ما حرفيته: «علينا إمّا إسقاط هذه الطائرات، أو تغيير المعطيات المزوَّدة بها (التي تقصف الأهداف بموجبها)، لأنّ هذه الطائرات تلحق ضرراً بالغاً بجماعتنا». و«جماعة» الضابط ليسوا سوى المقاتلين الأكراد، الذين بدا أنّ الضابط الآخر، أي متلقّي الاتصال، حريص عليهم أشد الحرص، إذ إنه أجاب زميله بـ «لا تقلق، سنعالج هذا الموضوع». ومنذ نُشرَت القصة على صفحات «بوغون»، لم يبقَ سياسي ولا وسيلة إعلامية إلّا تولّوا التداول بها. تكلم الجميع إلا قيادة الجيش، التي فضّلت، ولا تزال، الصمت المطبِق.
وفي مراجعة سريعة لما تلى ذاك الاتصال الهاتفي، كشفت صحيفة «توداي زمان» أنّ رئيس الأركان الحالي، إلكر باسبوغ، كان في حينها قائداً للقوات البرية في الجيش. وبعدما رصدت وكالة الاستخبارات الوطنية (mit) مضمون اتصال الضابطين، أبلغت القوات البرية على الفور، بحيث سارع باسبوغ إلى إصدار أمر بإجراء تحقيق في 28 تشرين الأول 2007، أي بعد 18 يوماً من الحادثة. وكان لافتاً أنّ القضاء اكتشف أنّ الملازم فرات ش. متورّط في أعمال شبكة «إرغينيكون» أيضاً، فأحيل ملفه على قاضي القوات الجوية في القضاء العسكري التركي في حينها، العقيد أحمد زكي أوزوك، الذي «وضع القضية على الرف». والسبب في ذلك قد يظهر عندما نعلم أنّ أوزوك يُعدّ اليوم المدَّعى عليه الرئيسي في ملف عصابة كانت تتولّى تنظيم تقارير طبية مزوَّرة لإعفاء «زبائنها» من الخدمة العسكرية الإلزامية.
والنتيحة واحدة: الضابطان فرات ش. وسلجوك ش. لم يُحاكما ولا يزالان طليقين.
وأمام فضيحة من هذا النوع، اضطر وزير الدفاع إلى الاعتراف بصحة الواقعة، كاشفاً أنّ التأخير في التحقيقات سببه تضارب صلاحيات المحاكم، متعهداً أن ينال كل مسؤول عقابه. كلام بدا أنه لم يرضِ زميل غونول في الحزب الحاكم، رئيس البرلمان، محمد علي شاهين، الذي طالب باسبوغ بتوضيح القضية للرأي العام سريعاً، بما أنّها تتعلق بتهمة العمالة.
وفي عزّ النقاش في فضيحة «عملاء» مقاتلي عبد الله أوجلان داخل الجيش، فجّرت صحيفة «ستار» مصيبة أخرى تضرب المزيد من صدقية الجيش لدى المواطنين الأتراك، الذين لا يزالون يرون، رغم كل شيء، أنّ المؤسسة العسكرية هي «أكبر ضمانة للجمهورية». هذه المرة، تتعلّق الفضيحة بإحدى أكبر عمليات «الكردستاني» ضد الجيش في الفترة الأخيرة. تلك التي قِيل إنّها منسَّقة مع إسرائيل، بما أنها حصلت قبل نحو 3 ساعات من جريمة «أسطول الحرية» في 31 أيار الماضي. في حينها، هاجم مقاتلون أكراد قاعدة بحرية تركية في منطقة إسكندرون، وقتلوا 7 جنود. وبحسب العدد الصادر أول من أمس من «ستار»، تكمن الفضيحة في أنّ وحدات الاستخبارات العسكرية المكلَّفة تأمين قاعدة إسكندرون، كانت مشغولة برصد جمعيات دينية غير حكومية تنظّم نشاطات إسلامية ورياضية وثقافية في تلك الفترة، بالتزامن مع الهجوم الصاروخي الذي تعرضت له القاعدة البحرية. فضيحة جديدة تُضاف إلى تلك التي كُشف النقاب عنها قبل فترة، عن أنّ قيادة الجيش كانت تملك وثائق مصوّرة ومعلومات مهمّة عن نية «الكردستاني» مهاجمة قاعدة الإسكندرون قبل 6 أشهر من وقوع الهجوم في 31 أيار.