غرونوبل وسانت إينيان عنوانان جديدان للعنف المدينيباريس ــ بسّام الطيارة
غرونوبل. المدينة الجامعية المزروعة في قلب جبال الألب هي أيضاً تاريخياً محور تحرك المافيا الإيطالية، ومركز استقطاب لكل الأعمال الإجرامية بحكم موقعها الجغرافي القريب من الحدود الإيطالية والسويسرية. ولكونها مطلّة على العاصمة الصناعية «الغنية والمحافظة»، ليون، فإنها باتت نقطة انطلاق لأعمال نهب وسرقة في داخل أسوارها وفي المدن المحيطة بها.
الجديد في الأمر أنّ «العصابات التاريخية»، مثل المافيا الإيطالية و«الإخوان المارسيليين» (نسبة إلى أصولهم من مارسيليا)، بدأت تستعين بـ«شباب الضواحي الفقيرة»، أي الجيل الثاني والثالث من أولاد المهاجرين، الذين لم يسعفهم «المصعد الاجتماعي»، ونهشت الأزمات الاقتصادية المتتالية مستقبلهم، وأخرجتهم البطالة من سياق المجتمع ليكوّنوا «حزام فقر وبؤس» في معظم المدن الفرنسية منذ عقدين ونيّف. وباتت صفة العنف والإجرام تزين وصف هذا الحزام، لتمثّل إحدى أبرز مشكلات السنوات المقبلة في المجتمع الفرنسي.
خطورة هذا الهاجس الاجتماعي الجديد أنه يمزج بين مسألة الهجرة والمهاجرين، والعنف المديني، ما ينعكس ردّات فعل تتجاوز إطار الحالات الإجرامية لتطاول مسألة الاندماج في المجتمع، وتفيض عن هذا الإطار لتقع في مستنقع العنصرية، الذي يؤسس حكماً لشرخ في المجتمع الفرنسي.
القاسم المشترك بين «زعران اليوم وزعران الأمس» مطابق لكل ما حفلت به كتب علم الجنح والدراسات الاجتماعية. فقرٌ، فخروج من مسار الدراسة فبطالة تقود حكماً نحو عالم الجنحة والجريمة. الجديد هو التلوين السياسي الذي يمكن أن يعطى للدوافع، بحكم كون «الجيل الصاعد من الزعران» هو ذو أصول مهاجرة. ففي السابق كان تلوين عالم الإجرام إيطالياً بحكم كون المهاجرين إيطاليّي الأصول، فدخلت في عالم التعابير كلمات مثل كازينو، التي تعني الفوضى وحكم المال، أو كابو، التي تعني الزعيم، ثم ساد تلوين أوروبا الشرقية بعد فتح أبواب الهجرة أمام البولونيّين والألمان الشرقيين الهاربين من الشيوعية. أمّا اليوم، فالتلوين هو «مهاجري» بحكم انتماء عدد كبير من الجانحين إلى هذه الطبقة من الفرنسيّين، إلّا أن ترجمة هذا التلوين تصب حكماً في خانة الإسلام والمسلمين، نظراً إلى قوة الترابط الإعلامي بين الهجرة والإسلام.
كريم بودودة (٢٧ سنة) من سكان ضاحية غرونوبل، سجلّه العدلي غير نظيف، ومحكوم مرات عدة بتهم تراوح بين السطو والسلب بقوة السلاح. ليلة الجمعة ـــــ السبت الماضي حاول بودودة السطو على كازينو قمار بقوة السلاح في حي إيزير الراقي من المدينة، وسبب تبادل الرصاص مع الشرطة مقتله. وأكد المدعي العام، جان فيليب، أن الشرطة تحركت في إطار «الدفاع الشرعي» عن النفس. وهو ما اعترض عليه شبّان حي فيلنوف، الذي كان يقيم فيه بودودة. ونزل «الشبان» إلى الشارع، وبدأت المواجهات واستمرت يوم الأحد، وترافقت مع تعرض عناصر الشرطة لإطلاق نار في الليالي الثلاث على التوالي، وهو ما عدّته السطات «تطوراً خطيراً جداً». ونقل عن شهود أنّ مجموعات صغيرة من الشبان عمدت إلى مراقبة التدابير الأمنية التي اتخذها عناصر الشرطة، فيما كانت مروحية تحلّق في أجواء المنطقة. وقد ردّ عناصر الشرطة الذين تعرضوا لإطلاق نار على جزء منه بإطلاق رصاص حي، وعلى جزء آخر بإطلاق الرصاص المطاطي.
وتفيد التقارير عن إحراق نحو ستّين سيارة، وعدد من المتاجر، فيما انتشر أكثر من ٣٠٠ شرطي في المكان، على أن يستمر انتشارهم حتى صباح غد الأربعاء. ومنذ بداية أعمال العنف الجمعة، جرى اعتقال عشرين شخصاً، فيما وجّه الاتهام بإطلاق النار على الشرطة إلى شخصين قيد التوقيف. كما أعلن المدعي العام فتح تحقيق في ظروف مقتل «الشاب».
من جهتها، أعلنت والدة القتيل، ساليا بودودة، بعدما وجهت دعوة إلى الهدوء، عزمها على التقدم بدعوى لكشف ملابسات مقتل ابنها، بقولها «لقد ارتكب رجال الشرطة حماقة». إلا أنّ رأي عدد من المواطنين الذين فقدوا سياراتهم في الحي الفقير، يخالف رأي الوالدة المفجوعة». وقد ذكر أحد سكان الحي «أنه يتفهّم لوعة الأم»، إلا أنه تساءل ما معنى أن تقف الشرطة موقف المتفرج فيما «يسلب وينهب المجرمون ويحاولون اقتحام الحواجز ودهس رجال الشرطة؟».
السؤال نفسه يطرحه سكان «سانت إينيان» (وسط)، بعدما نزل نحو أربعين شخصاً من الغجر إلى وسط القرية يعيثون فيها تحطيماً، ويكسّرون الواجهات ويقطعون الأشجار، بعدما هاجموا ثكنة الدرك بسبب مقتل أحد أبنائهم (٢٢ عاماً)، الذي رفض الامتثال لأمر الشرطة وحاول دهس الحاجز الذي وُضع لتوقيف سيارته. وهنا أيضاً يتفهم أهل القرية حزن العائلة إلّا أنهم يتساءلون ما ذنب القرية وإنشاءاتها، ويضيفون «لا يحق لأحد أن يأخذ حقه بنفسه، فقط القانون يرد لهم حقوقهم». ولا يتردد بعضهم في القول «بالطبع لنا حضارتنا ولهم حضارتهم».
ولأن عاداتهم تختلف، فهم في نظر الجميع، مثلهم مثل المهاجرين الذين باتوا فرنسيين مند أجيال، «غرباء» لأنهم لا يمثّلون «النمط الوطني». وعندما يتحدث بعض المواطنين الفرنسيين عن الغجر يقولون «هم» أو «أهل السفر» وهي تسميتهم الرسمية لأنهم لا يستقرون في مدينة، ويعيشون في قوافل ومنازل متنقّلة، وهم فرنسيون أباً عن جد.
وما يؤسف له أنّ هذه «الحوادث الأمنية» تأتي لنجدة القوى التي تؤجّج استهداف المهاجرين، وتجعل من الأمن ومحاربة «شباب الضواحي» مادة دعاية انتخابية، وتدفع إلى ما وراء الواجهة الإعلامية ملفات الفساد السياسي والتهرب الضرائبي من جانب الأغنياء، لتدفع إلى الأمام ملفات الأمن والهجرة، التي هي وقود اليمين المتطرف الانتخابي.


«الغريب» ما زال حاضراًو«الغريب» في فرنسا لا يزال حاضراً في «باتوس» (لاوعي) عدد من المواطنين الفرنسيين المتزايد منذ سنوات، الذي زاد مع ارتفاع حدة التركيز على صراع الحضارات لأسباب سياسية. وبالطبع فإن سياسات وقوانين استهداف «الغريب» تصبّ إعلامياً في معظم الأحيان على «رؤوس المسلمين»، إلّا أن عدداً متزايداً من «الغرباء» يصيبهم «نصيبهم من المعاملة العنصرية»، منهم الغجر الفرنسيون و«اللاجئون السياسيون والاقتصاديون»، الذين يعيشون من دون أوراق رسمية، ما يجبرهم في كثير من الأحيان على أن ينحدروا نحو دوائر الجنح والخروج على القانون.