بغية الهرب من سوريا إلى تركيا، خرجنا من مدينة الرّقة في الساعة الثانية والنصف، لنصل إلى تل أبيض، على الحدود التركية، مع موعد أذان العصر. توجهنا للمسجد مباشرة، فسيارة «الحِسبة» (الشرطة الإسلامية) كانت تمشّط شوارع القرية. انتهت الصلاة، وتوجهنا إلى البوّابة الحدودية، حيث تفصلنا بضعة أمتار عن عالم مختلف. لم أتحدّث إلى أحد، جلست أدخن سيجارة، بحذر، بعيداً عن أنظار جنود «الدولة الإسلامية».
حين ناداني عدي، رفيق السفر، للحصول على تصريح «فيش» للعبور إلى الأراضي التركية، بدأنا نفاوض المهربين، إلى أن وصل سائق تاكسي، مقترحاً مساعدتنا، قائلاً: «إنّ المهربين نصابون، ومستغلون»، وإنه سينقلنا إلى المكان الذي يجري عبره تهريب الناس إلى تركيا، دون الحاجة للمهرّب، «الجيش التركي لا يتعامل مع أحد منهم» قال لنا، فوافقنا.
في منطقة التجمّع، كان ما يقارب ألف شخص، غالبيتهم من النساء، يستعدون لمغادرة سوريا إلى الأراضي التركية. ومع مغيب الشمس، بدأت الجحافل تمشي نحو الشريط الحدودي، حيث وقفت على الجانب الآخر منه إحدى سيارات حرس الحدود التركية، «العقربة» كما يسمونها، وهي تراقبنا عن كثب. كان المشهد يبعث على الحقد والشعور والمهانة، وفي الوقت نفسه على الشفقة تجاه كل هؤلاء الهاربين من جحيم الموت بحثاً عن أمل بالحياة. مع غياب الشمس بشكل كامل، حضرت إلى المكان «عقربتان» جديدتان للدعم. وبعدما سلكت، مع عدي، جهة الشرق بين جماعة من الزاحفين، بدأ الجيش التركي تحذيرنا، بواسطة مكبرات الصوت، آمراً الجميع بالعودة. غير أنّ الجموع تابعت سيرها، متجاهلة الرصاص الذي أطلقه الجنود الأتراك في الهواء، فمن هرب من البراميل والطيران والمفخخات لن يرهبه رصاص يطلق في الهواء.
خلال عبور الشريط الشائك عانت النسوة، بسبب كمّ الملابس التي يرتدينها، فقمن بتقطيع ملابسهن بغية العبور. وبعد التخلّص من الشريط الشائك، كان علينا عبور خندق، لنجد «العقربة» على بعد أمتار، تفصلنا عنها تلّة ترابية، فلزمنا الصمت لبرهة، ريثما ابتعدت «العقربة» ثمّ تابعنا الطريق، وقد ظننت أننا بلغنا برّ الأمان، بعدما خارت قواي من الإنهاك. غير أنّ الحقيقة المؤلمة أنّه كان علينا المتابعة، واجتياز خندق آخر يبلغ ارتفاع الماء فيه حوالي ربع متر. كان هاجسي هي أوراقنا الثبوتية، وجوازات السفر، والهواتف، والمال، فناضلت حريصاً على ألا يصل الماء إلى ما أحمله، وقد فقدت القدرة على التركيز، ليوقظني صوت عدي: «اخلع حذاءك فيسهل العبور عليك»، لكن خلع الحذاء لم يكن بالأمر السهل، ففي كلّ محاولة أقوم بها كنت أسقط في الطين. حين تمكنت من خلع الحذاء، رميته مع الحقيبة التي تزن 50 كغ، ليتلقّفه عدي على الضفّة الأخرى. وحين تمكّنت من الوصول إليه سقطت خائر القوى، لا أقوى على الحركة أو الكلام، ولا أسمع غير صراخ النسوة، وقد فقد بعضهن صغارهن، كما فقدن شيئاً من حقائبهن في الطين. وبينما كان عدي يقول لي ضاحكاً: «الحمدلله عالسلامة. أردوغان يرحب بك. عادي بعد كم يوم تتذكر وتضحك على حالك» كان بعض الشبان قد وقعوا في قبضة الشرطة التركية، لتجري إعادتهم لاحقاً إلى سوريا. كنت غارقاً في الوحل، لكني تأكدت من سلامة جواز السفر والهواتف والنقود، ومن ثمّ انتظرت مع عدي وصول السيارات التي ستقلّنا إلى حيث نريد. مع وصول السيارات استقللت مع عدي إحداها، وتوجهنا إلى akçakale، أو تل أبيض التركية، حيث سنبيت في بيت خالة عدي، ريثما أتوجه في اليوم التالي إلى غازي عينتاب، حيث سأبحث عن فرصتي بالحياة، بعدما غادرت الجحيم، وعرفت طعم الموت، حيث لم يبق في الذاكرة غير الألم، والقهر، والحزن على بلاد هي بلادنا، لكنها باتت بعيدة عنّا، وتشبه اليوم حلماً صعب المنال.