بعد سبع ليالٍ أمضوها نائمين على حقائب السفر، في غابةٍ من غابات إزمير، معقل مافيا المهرّبين التركية، لم يستسلم جاد ورفاقه الثلاثة لليأس، وقرّروا أن يكملوا الرحلة التي بدأوها.وبرغم أنّ الكثيرين، من المجموعة التي كانت تنتظر في الغابة، عادوا، بعدما يئسوا من الانتظار، إلى مدينة إزمير، إلّا أنّ أعداد العالقين لم تقلّ. منهم من حان دوره وصعد القارب المطاطيّ، ومنهم من جاء لاحقاً لتبدأ رحلة انتظاره. قبل أسبوع، ودون مقدّمات، حسم جاد أمره وقرّر أنّ وقت الرحيل عن الشام قد حان. لم يكن من الصعب أن يجد مُهرّباً، فهذه «المهنة» باتت رائجةً هذه الأيّام، وكثرٌ من يصنعون ثرواتهم من يأس الراغبين بالرحيل. المحطّة الأولى بيروت، ومنها إلى إزمير التركية، حيث خذلهم المهرّب الأوّل، ولم يعد يجيب على اتصالاتهم، ولكن هذه لم تكن مشكلةً حقيقية، إذ إنّ أعداد المهربين في إزمير تفوق أعداد المنتظرين، هم من يعثرون على فرائسهم لا العكس.

اتفقوا مع مهرّبٍ آخر، طلب 1200 دولار للشخص الواحد. المهرّب هو صلة الوصل فقط، لا «الرأس»، فالمهرّب الكبير لا يظهر إلى العلن أبداً، كلّ ما عرف عنه أنّه سودانيّ الجنسيّة، يعمل مع مافيا التهريب التركيّة. قادهم المهرّب بسيارة أجرة إلى منطقةٍ تبعد حوالي 2 كم عن غابة الانتظار، الليل انتصف، وعليهم متابعة الدرب سيراً على الأقدام، رغم احتمالات أن يقعوا في قبضة الشرطة التركية.
حان دورهم أخيراً، وصل القارب المطاطي الذي سينقلهم إلى جزيرة ميتيلني اليونانية. رجل مافيا تركيّ، مع سلاحه، يقودهم إلى القارب، يجبر 55 شخصاً أن يتكدّسوا في مركبٍ، لا يتسع لأكثر من 40 فرداً. شباب وعائلات وأطفال قبلوا الأمر الواقع، ابتلعوا الخوف، وبصمتٍ غطوا «البلم» بأجسادهم. ترك جاد قسماً من أمتعته في الغابة، لأن مزيداً من الثقل في المركب يعني الموت غرقاً. وكلّما أسرع المركب قليلاً، تسرّبت المياه إليه، فيبطئ السائق السرعة، ويرمى البعض حقائب سفرهم في البحر. الموتُ كان أقرب من الجزيرة، التي تبعد نصفَ ساعةٍ فقط، يقترب بين لحظة وأخرى ليبتلع ما حملوا معهم من أحلامٍ إلى بلاد الغربة.


استقبلتهم الصحافة، وعدسات الكاميرا في ميتيلني، الجزيرة التي يصل إليها يومياً حوالي 2000 مهاجر. وبرغم التعب، ارتفعت زغاريد الفرحة في الهواء، بعدما وصلوا برّ الأمان. المحطّة التالية، مركز الجزيرة، وبانتظار الحافلة التي تنقلهم، اختاروا النوم في مواقف الباصات، كلّ على مقعد، وما بقي من حقائبهم كوسادة. في فجر اليوم التالي، افترش خمسون مهاجراً أرض محطّة الحافلات، هذه الحافلات التي لم تأتِ بعد. في عمق يأسهم، يعثر جاد ورفاقه على سيّارة أجرة أقلّتهم إلى منطقة قريبة من ميناء الجزيرة، ساروا مسافة 20 كيلومتراً، ليصلوا أخيراً.
لم يكن الحصول على ورقةِ الطرد «الخارطية» من مركز الشرطة في ميناء ميتيليني أمراً سهلاً، فمع الأعداد الهائلة من المهاجرين، الذين يصطفون طوابير في الميناء، ويتدافعون ويتسابقون. أقفلت الشرطة مركزها، غضباً من عدم صبرهم. معظم المنتظرين، مثل جاد، ناموا الليلة مكانهم، في الصف الطويل، ولأنّ الوقت يزاحمهم، اعتصموا أمام مركز الشرطة، التي أعادت استقبالهم بعدما لفتوا نظر الصحافة. بالطبع لا ترغب الشرطة بأن يقال عنها أنها «غير إنسانية».
يحصل السوري على «الخارطية» في يومٍ واحدٍ فقط، على العكس من حاملي الجنسيات الأخرى، الذين ينتظرون لأسبوع، ولذلك، قام بعض المهاجرين، من غير السوريين، بتزوير بياناتهم لدى الشرطة، وسجّلوا أنفسهم على أنهم سوريون.

في غابات البلقان

يعرف جاد صديقاً في أثينا، استقبله لثلاثةِ أيّام، بعد الأخبار التي وردت عن أنّ الجيش المقدونيّ لا يسمح بمرور المهاجرين، واعتدى على أعداد منهم. استغلّ الأصدقاء الأربعة هذه المدّة للاستراحة من عناء الساعات الماضية. وفي اليوم الثالث، حزم جاد ما بقي من أمتعته، واستقلّ الحافلةَ باتجاه سالونيك. عند الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وصلوا إلى الحدود المقدونية، وبالاستعانة بنظام تحديد المواقع على هواتفهم، حاولوا معرفة طريقهم خارج اليونان. تبع جاد ورفاقه في سيرهم باتجاه الغابات المقدونيّة حوالي 40 شخصاً، ودون أن يلحظوا، وجدوا أنفسهم في مقدونيا، داخل قريةٍ هادئة وجميلة. لم تمرّ دقائق على دخولهم القرية، حتى سمعوا صوتاً يخرج من أحد بيوتها الصغيرة ويصرخ: «تاكسي! تاكسي!». كان رجلاً خمسينياً، لا يجيد اللغة الانكليزية، لكن يبدو أنّه اعتاد صفوف المهاجرين، الذين يدخلون قريته الحدوديّة، وصنع لنفسه مهمّة التكفل بنقلهم إلى الحدود مع صربيا، طبعاً لقاء 100 يورو للشخص الواحد.

يحصل السوري على
«الخارطية» في يومٍ واحدٍ فقط، على العكس من حاملي الجنسيات الأخرى

عند الثامنة من صباح اليوم التالي، وصل جاد ورفاقه، و2000 مهاجر آخرين، إلى الحدود الصربية، حيث رافقتهم مجموعة من الجيش الصربي. لم ينتظر جاد للحصول على ورقة الطرد الصربية، بل غادر ورفاقه إلى بلغراد، بمساعدة مجموعة شبّان صغار السنّ، يتحدّثون اللغة العربية، حجزوا لهم باصاً إلى العاصمة. ولأنّهم لا يحملون ورقة الطرد، لا يملك الأربعة سبيلاً لمغادرة بلغراد، إلى الحدود الهنغاريّة، سوى الوسائل غير الشرعيّة، أي عبر واحدة من سيّارات الأجرة الكثيرة، التي تقلّ المهاجرين أمثالهم إلى المناطق الحدوديّة، أو إلى أقرب نقطةٍ ممكنة، حتّى لا تعثر الشرطة على السائق، وتغرّمه وتحجز سيارته ويقضي عقوبة السجن لعشر سنوات.
كان لا بدّ من السير لمسافات طويلةٍ في الظلام، بين غابات صربيا، لقطع الحدود الفاصلة بينها وبين هنغاريا. وبرغم تعب الرحلة وصعوبتها، إلّا أنّ مشقّة عبور الحدود إلى هنغاريا لا تقارن بكلّ ما مرّ به جاد سابقاً، فهنغاريا لا تتساهل أبداً مع المهاجرين، والشرطة الهنغارية تسيّر دوريّات خلف الأسلاك الشائكة، لتمنع الهاربين من الولوج إلى أراضيها، أو ليسلموا أنفسهم، وبهذا تجبرهم أن يبصموا في مكاتبها، ويتحولوا إلى لاجئين في أراضيها رغماً عن إرادتهم. بعد الاستدلال بين أشجار الغابات الملطخة برسوم من مرّوا سابقاً، وصل جاد ورفاقه إلى أقرب نقطةٍ فاصلة بين الحدود الصربية والهنغارية. الرؤية صارت صعبة، وكذلك التحرّك، فالشرطة تضيء كاشفاتها في عيونهم، وتهدّدهم عبر مكبّرات الصوت: «أنا أراكم! محاولة جيّدة!». تجمّد جاد في مكانه، انتظاراً للفرصة المناسبة للخروج، بعد ابتعادهم عن المجموعة التي أصيبت بالهلع. صعدوا التلّة الصغيرة، التي توجههم مباشرةً نحو سواتر الأسلاك الشائكة. استعانوا بقطعة من سلّمٍ خشبيّ، عثروا عليه بين الأشجار، ليصعدوا به فوق الأسلاك. حاول جاد أن يتناسى الإصابة القديمة في قدمه، والتي عرقلت تحرّكه. نجحت محاولتهم. تجنبّوا الشرطة، وتركوا مشاعر اليأس خلفهم. تجاهل جاد جرحاً في يده، التي علقت بين الأسلاك، لفّها بقطعة قماش من ثيابه، وأكمل المسير. لم يأكلوا منذ ساعات، ولم يناموا منذ أيّام. يقطعون غابات البلقان المجهولة، وخلفها أشباح الانتظار أو الموت.

المحطّة الأخيرة دمشق

الوصول إلى بودابست كان أسهل ممّا اعتقدوا. من قرية سجد الهنغارية ساروا بين الغابات، عند طلوع الفجر، ليصلوا إلى حقول دوّار الشمس والذرة. اختبأوا هناك، وبدأوا التخطيط للخطوة التالية. نفذ صبر أحدهم، لم يستطع الجلوس دون حراك، منتظراً المجهول، فخرج إلى الطريق العام. هناك صادف شابّاً في سيارته، أوقفه وطلب منه المساعدة. وتبيّن أنّ الأخير يملك سيّارة أجرة، وعلى استعداد لأن يوصلهم إلى بودابست مقابل 200 يورو، أرسلهم إلى فندقٍ في المدينة، وضمن أنّهم في أمان.
في مقهى «ماكدونالدز» في بودابست، حيث جلس جاد، وأصدقاؤه، لتناول الطعام للمرّة الثالثة في يومٍ واحد، التقوا شابّا سوريّا يعيش في هولندا منذ ثمان سنوات، وقرّروا الرحيل معه في سيّارة أجرة إلى فيينا، ليستقلوا القطار من هناك إلى أمستردام. تفرّق الثلاثة في تلك النقطة، لأنّ أحدهم انضمّ إلى عائلة زوجته التي تعيش في ألمانيا.
ارتدى جاد حقيبة الظهر، وثياباً فضفاضةً «كالأجانب»، وصعد القطار، لم يشأ أن تمسك به الشرطة الألمانيّة، التي سبق أن أخرجت عائلةً عراقيّةً و 15 شخصاً آخرين من القطار، لأنّهم غير شرعيين.
يوم الجمعة مساءً، استقبلتهم أمستردام الساهرة. في أحد الشوراع، تحدّثوا إلى رجال شرطة، أخبروهم: «نحن سوريون»، أجاب الشرطي: «أهلاً وسهلاً، والآن اذهبوا واستمتعوا في الحفلة».
بعد أمستردام، مرحلةُ انتظارٍ جديدة، يخبرنا جاد بأنّه «ليس لاجئاً»، ليس رقماً إضافياً في سجلاّت اللجوء. هو شابٌّ سوريّ، رحل ليصنع أحلامه في مكانٍ ما في هذا العالم، والرحلة بدأت الآن، أمّا المحطّة الأخيرة فهي دمشق.