خصومه يتّهمونه بإضعاف «الكي دورسيه» وتحويل سياسة فرنسا عن أهدافهاباريس ــ بسّام الطيارة
سلّطت الأزمة التي تعصف بالعهد الساركوزي الأضواء على مواقع الخلل في الهيكلية الأساسية لتركيبة حكومته، والتي مثّلت في البداية نقاط قوة سُمّيت «القطيعة» وبهرت المواطن الفرنسي. ومن أبرز هذه النقاط: سياسة الانفتاح على الخصوم في إطار استراتيجية «فرّق تسد». وكان اللجوء إلى «الفرنش دكتور» برنار كوشنير كوزير للخارجية أبرز مفاعيل هذه السياسة.
إلا أن الأيام كشفت ضعف أداء كوشنير في الـ«كي دورسيه»، رغم الأضواء الإعلامية التي تُحيط بتحركاته. فقبل بداية الحديث عن تغيير حكومي بسبب سلسلة الفضائح التي شملت أكثر من وزير ووصلت إلى رأس الهرم، الرئيس نيكولا ساركوزي، كان المراقبون متوافقين على أن «كوشنير لن يعود إلى وزارة الخارجية» ليس فقط بسبب ضرورة شدّ أواصر اليمين المتأفف من إعطاء حصة لوزير «آت من اليسار» قبل الانتخابات المقبلة، بل لأن أكثر من دائرة كانت قد بدأت تتململ من سياسته.
تنصب الانتقادات التي تطاول كوشنير على3 نقاط أساسية: أولاً، أداؤه غير المتناسق والذي يسعى دائماً وراء الضربة الإعلامية اللماعة؛ ثانياً، ضعفه وعدم مقاومته لـ«وضع يد الإليزيه» على مقدرات الدبلوماسية الفرنسية الخارجية؛ ثالثاً، الضعف والوهن اللذان أصابا الـ«كي دورسيه» نتيجة سياسته الإدارية التي يقارنها البعض بـ«تسويق سلع ترفيهية بعيداً عن أهداف دبلوماسية سياسية متماسكة»، وهو ما يثير حنق أكثر من دبلوماسي محترف، وإن التزم الصمت، من دون أن يمنعه هذا من توجيه انتقادات بدأت تتعالى أصداؤها مع اقتراب رحيل الوزير في أول تعديل حكومي. كما لا يمكن تناسي التغيير الذي طبعه على سياسة فرنسا العربية وتحويرها لتصبح أكثر انحيازاً لإسرائيل.
هذه الانتقادات ليست محصورة فقط بموظفي الـ«كي دورسيه»، وإنما بدأت تخرج من أفواه وزراء بارزين شغلوا كرسي الخارجية. فقد وقّع رئيس الوزراء السابق، آلان جوبيه، وهيوبرت فيدرين، وهما من ألمع وزراء الخارجية في العقدين الماضيين ويمثلان اليمين واليسار، رسالة مفتوحة في صحيفة «لوموند»، تحت عنوان «كفوا عن إضعاف الكي دورسيه»، ينتقدان فيها توجه السياسة الإدارية الحالية للوزارة، وتراجع ميزانيتها بمعدل ٢٠ في المئة في السنوات الأخيرة. ووصف المسؤولان السابقان هذه السياسة بـ«العمياء» و«الكارثية»، وأنها تقود إلى «كسر» الآلة الدبلوماسية أمام أنظار العالم.
وفي مقارنة مع وزارة الخارجية الأميركية التي «ترفع ميزانيتها سنوياً من ٤ إلى ٥ في المئة» والبريطانية، المنافس التاريخي لـ«الكي دورسيه»، يشير جوبيه وفيدرين إلى القوى الآسيوية الصاعدة التي تدعم شبكتها الدبلوماسية، والبرازيل التي «افتتحت عشرات السفارات الجديدة».
إلى جانب الرسالة المفتوحة، شكلت مقابلة مع السفير السابق، جان كريستوف روفان، وهو كاتب شهير وعضو في الأكاديمية الفرنسية للآداب، صدمة أخرى في سياق كشف ضعف الـ«كي دورسيه». لم يتردد روفان، الذي دفعته الإدارة للاستقالة بسبب تململ الرئيس السنغالي من انتقاداته، في اتهام الأمين العام للإليزيه، كلود غيان، بالوقوف وراء إطاحته، وقال إنه يمسك بخيوط دبلوماسية فرنسا في أفريقيا بـ«غياب أي سلطة لكوشنير». واتهم الأخير بتحويل الـ«كي دورسيه» إلى «واجهة شعبوية أخلاقية»، بينما تدار «دبلوماسية واقعية» من وراء ظهره بواسطة أشخاص غير مسؤولين أمام البرلمان أو الحكومة.
وردّ كوشنير على هذا الهجوم، قائلاً إن محركه «الكراهية فقط» وإن الخيانة تأتي دائماً من الأصدقاء، في إشارة الى صداقته العميقة مع روفان.
وبعد صدور قوانين تنظيم الـ«كي دورسيه»، التي مررها كوشنير وقادت إلى بيع أجمل الأبنية التاريخية التابعة لوزارته وبعثرة دوائرها في ضواحي بعيدة عن ضفاف السين والخفض في ميزانيات نشر الثقافة الفرنسية، يُفاجئك سعي كوشنير إلى تمرير قانون ينص على إمكانية طلب الدولة الفرنسية تعويض المصاريف التي تدفعها لتحرير رهائن فرنسيين عرضوا أنفسهم للخطر. ورغم استثناء من له «ظروف مشروعة»، فإن الخوف دبّ في أوساط الصحافة، وخصوصاً أن حركة «طالبان» تمسك اليوم بصحافيين فرنسيين، من أن يمثّل هذا القانون رادعاً لمنع الصحافيين من تغطية الأنباء في مناطق الصراع. بدورها، الجمعيات الناشطة تتخوف من أن تكون مستهدفة من «الوزير الذي سبق أن سوّقَ للتدخل الإنساني» لمنعها من القيام بواجباتها الإنسانية.
ولوحظ أن هذا القانون يأتي بعدما دفعت الحكومة كفالة مالية عالية لكلودين رايس، التي احتجزت في طهران، وتمنعت عن دفع تكاليف إعادة المواطنين الفرنسيين الذين شاركوا في أسطول الحرية، ما أثار تساؤلات حول الكيل بمكيالين، فضلاً عن وجود عدد من الناشطين الفرنسيين يستعدون لتنظيم رحلات جديدة لكسر الحصار عن غزة.
ويسلط هذا الضوء على «الانعطافة» التي أجراها كوشنير على «سياسة فرنسا العربية الشهيرة». ويذكر عدد من الدبلوماسيين كيف كانت دبلوماسية فرنسا في السابق «رأس حربة الداعين الى سلام عادل» يأخذ في الاعتبار مبدأ حصول الفلسطينيين على «حقوق كاملة غير منتقصة»، إلى جانب أمن الدولة العبرية، مع التشديد على «عدم قانونية ما تقوم به حكومات اسرائيل المتعاقبة».
سياسة فرنسا العربية باتت اليوم غامضة، فيما دفع كوشنير وساركوزي باتجاه «محاباة السياسة الاسرائيلية» لتمثّل قاعدة الدبلوماسية الفرنسية في الشرق الأوسط. يقول أحد المرافقين لمسيرة كوشنير «بالفعل إنها مرحلة غروب مسيرة من بحث دائماً عن الضوء».