صراع قضائي مكتوم على أرشيف اليهود المتصوفينربى أبو عمّو
تساءل الروائي الروسي فيودور ميخايلوفيش دوستيوفسكي في كتابه «يوميات كاتب»: «هل يمكن المرء أن يصدق أن اليهودي ليس هو الذي كثيراً ما تضامن مع ظالمي هذا الشعب، كثيراً ما تعهد ضبط الشعب الروسي، ثم تحول هو نفسه إلى ظالم له؟ حدث كل ذلك بالفعل. هذا تاريخ وحقيقة تاريخية. مع ذلك، لم نسمع قط أن الشعب اليهودي ندم على ذلك، فيما لا يزال يتهم الشعب الروسي بأنه لا يحبه».
أراد الروائي الروسي من خلال هذه السطور تبيان علاقة «حقد» طويلة بين اليهود وروسيا. مشاعر لم يكن الروس ليخفوها، هم الذين واجهوا استغلال «اليهودي» لهم مواجهة علنية وأحياناً دموية.
في الوقت الحاضر، يبدو أن اليهود انصهروا في المجتمع الروسي، وباتوا أقرب إلى دولته منهم إلى إسرائيل. ولم تعد كلمة يهودي «شتيمة» لدى الروسي، على ما جرت العادة.
لكن فئة من اليهود «المتصوفين» وجدت نفسها أخيراً طرفاً في نزاع مع روسيا. نزاع يعيد حكاية التحاقد هذه إلى الأذهان، علماً بأن الجانب الروسي هو الذي أثار الموضوع. والآن يمكن عدُّ الأزمة «ثلاثية الأبعاد»، بعدما تحولت الولايات المتحدة إلى عنصر أساسي في المشكلة.
صحيفة «برافدا» الروسية، المقربة من الكرملين، قالت لدى إثارتها هذه الأزمة، إن «فضيحة جديدة على وشك أن تندلع بين روسيا والولايات المتحدة، وهي ذات مدلول ديني هذه المرة». إنها مكتبة «شنيرسون» (Schneerson) التي تقول المنظمة الدينية اليهودية «حاباد»، وهي فرع من «الحازيديم» (يهود متدينون)، إنها من حقها، وتطالب باسترجاعها من روسيا التي رفضت رفضاً قاطعاً.
ورغم أن اللاعبين الرئيسيين في هذه الأزمة هم اليهود، كان لافتاً عدم وجود معلومات على الإنترنت عن قصة المكتبة في الصحف الصادرة بالإنكليزية، ما عدا بعض الأخبار ورواية الحكومة الأميركية. تعتيمٌ انسحب على الصحافة العبرية، باعتبار أن الأخيرة لا تهتم بالكتابة عن اليهود المتدينين إلى حد التصوف، وخصوصاً أنهم لا يعترفون بدولة إسرائيل بوضعها الحالي.
الصحافة الإلكترونية الروسية وحدها كانت مشغولة في الموضوع. أهمية المكتبة أنها تضم مجموعة فريدة من الكتب عن اليهودية. بدأ الحاخام رابيس شنيرسون، الذي عاش في بلدة لوبافيتش، أحد المراكز الأساسية للحازيديم في القرن الثامن عشر، بجمعها عام 1772. حتى باتت تضم 12000 كتاب و50000 وثيقة فريدة من نوعها، بما في ذلك 381 مخطوطة.
يضاف إلى ذلك تقديس معظم «الحاباد» للحاخام شنيرسون. وتعد المكتبة التي جمعها له ولذريته بمثابة مزار ديني. وترى المنظمة المذكورة أن هذه المحتويات ستقودهم إلى امتلاك الرؤية الصوفية التي ستمكنهم من توسيع نفوذهم في العالم.
بعد الثورة البولشفية عام 1917، استولى البلاشفة على المكتبة. وتقول «برافدا» إنه «بعد عشر سنين من ذلك، تمكنت سلالة شنيرسون التي طردت من الاتحاد السوفياتي من نقل المكتبة إلى لاتفيا ثم إلى بولندا.
وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية، فر شنيرسون إلى الولايات المتحدة، إلا أنه فشل في حفظ الوثائق بعدما استولى عليها النازيون الذين أرسلوها إلى ألمانيا».
في المقابل، تقول الحكومة الأميركية إنه أُمِّم جزء من محتويات المكتبة عام1917، فيما تمكن آل شنيرسون من نقل الجزء الآخر إلى خارج الاتحاد السوفياتي قبل أن يستولي عليه النازيون.
انتهت الحرب العالمية الثانية. هُزِم النازيون ووضع السوفيات يدهم على أرشيف شنيرسون مجدداً ونقلوه إلى موسكو. مرّ بعض الوقت قبل أن تحفظ وثائق المكتبة في مكتبة الدولة.
هذه هي قصة انتقال المكتبة من مكان إلى آخر. وقد بدأ «الحاباد» المطالبة باسترجاع المكتبة، ولم يتراجعوا عن مطلبهم حتى اليوم، وخصوصاً أن المنظمة لجأت إلى المحاكم الأميركية.
موسكو رفضت حضور جلسات الاستماع في المحكمة بعدما رأت أن القضية ليست من اختصاص المحاكم الأميركية. ولم تكترث لتحذيرات المحكمة التي هددت موسكو بالحكم لمصلحة «الحازيديم» إذا استمر تغيبها عن الجلسات، وهو ما حدث فعلاً في تشرين الأول 2009.
وأكدت وزارة الخارجية الروسية أن «أي محكمة تابعة لبلد ما لا يمكنها النظر في الدعاوى المرفوعة على الدول الأخرى وممتلكاتها من دون موافقة صريحة من الأخيرة». وطالبت «الحازيديم» باسترجاع سبعة كتب من المكتبة، كانوا قد استعاروها عام 1994 في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، خلال برنامج الإقراض الدولي التابع للكونغرس.
ويقول دبلوماسيون روس إن المكتبة لا تنتمي إلى منظمة شاباد الأميركية، إذ إنها لم تغادر الأراضي الروسية، وقد أُمِّمت لأنه لم يكن للأسرة ورثة. وحتى إذا وجد الورثة، فلن يحصلوا على المكتبة.
لا يبدو إصرار موسكو على الاحتفاظ بـ«شنيرسون» مستغرباً. أضعف الإيمان أنها احتفظت بها على أراضيها لسنوات طويلة حتى تحولت إلى إرث خاص بها، عدا الأهمية السياحية لمثل هذا الإرث التاريخي.
أما «الحاباد»، الذين يمثّلون «لوبي» ضغط لا بأس به في واشنطن ويعدون من الأغنياء، فقد تمكنوا من استجلاب الاهتمام الأميركي إلى قضيتهم، التي ربما لم يعد ينقصها إلا تدخل الرئيس باراك أوباما شخصياً.
تاريخ جديد يشهد احتكاكاً يهودياً ـــــ روسياً قد يذكّر بزمن مضى، إلا أنه لن يعيده. ولن يبقى منه إلا روايات دوستيوفسكي!


«حاباد»

«حاباد» حركة يهودية دينية غير حزبية نشأت في بيلاروسيا، ثم انتقلت إلى لاتفيا، بولندا، وأخيراً إلى الولايات المتحدة عام 1940.
هذه الحركة من أغنى المنظمات اليهودية في العالم، وتؤمن بأن حدود إسرائيل هي من الفرات إلى النيل. اعتقاد لن يتحقق قبل ظهور المسيح المنتظر، المكلف من الرب إنقاذ «الشعب اليهودي» و«العودة» به إلى أرضه لتأسيس «مملكة إسرائيل»، على ما تفيد الرواية التوراتية، ما يجعلها في مواجهة دائمة مع التيارات اليهودية الأخرى.
ورغم انكفاء الحركة عن دعم إسرائيل، إلا أن تغيّراً طرأ على موقفها بعد حرب 1967، إذ قال حينها الحاخام شنيرسون: «صحيح أن دولة اسرائيل، بوصفها كياناً صهيونياً، هي تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الله، لكن أرض إسرائيل بسيادة يهودية تنطوي على معان ومغاز دينية ذات أهمية، لذلك تدعو الحركة إلى عدم التنازل عن أي من الأراضي التي احتلت سنة 1967».