البريطانيّون يغيّرون نظرتهم إلى البابا: جدّ مقدّسبسّام الطيارة
وصف البابا بنديكتوس السادس عشر، أمس، زيارته لبريطانيا بأنها «حدث تاريخي يفتح عهداً جديداً» في العلاقات بين هذا البلد والفاتيكان. وقال، في جلسة الاستماع التي يعقدها عادة في كل مرة يقوم بها برحلة لتقويم نتائج زيارته، إنّها تفتح «عهداً جديداً وهاماً في التاريخ الطويل والمعقد للعلاقات بين هذا الشعب والفاتيكان».
تميزت هذه الزيارة بفواصل إعلامية بارزة: لقاء بابا الكنيسة الكاثوليكية مع «رأس الكنيسة الأنغليكانية» الملكة إليزابت الثانية، قبل لقائه مع أسقف كانتربيري روان وليامز في «لامبيث بالاس»، المقر اللندني لإقامة رئيس الأنغليكانيين في العالم. ومن ثم زيارته لـ«دير ويستمنستر» حيث يتوج ملوك إنكلترا منذ انفصال الكنيستين، وذلك حسب دستور يمنع أن يكونوا من الطائفة الكاثوليكية. وقد أشادت الصحافة البريطانية بالزيارة بعد فاصل «انتقادي»، وربطت نجاحها بالتنديد بالتجاوزات الجنسية التي ارتكبها كهنة بحق أطفال، فيما قال رئيس الوزراء دايفيد كاميرون إنّ البابا «تكلم في بلد يعيش فيه ستة ملايين كاثوليكي، إلا أنّه استمع إليه ٦٠ مليون مواطن».
وهذه أول «زيارة دولة» لرئيس الكنيسة الكاثوليكية في تاريخ المملكة المتحدة، وأول رحلة بابوية إلى بريطانيا ذات الغالبية الأنغليكانية منذ الزيارة «الرعوية» للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني عام ١٩٨٢. وخلال أربعة أيام تنقل بين اسكتلندا وإنكلترا والتقى «شخصياً مئات الآلاف من الأشخاص في الشوارع»، حسب تعبير المتحدث باسم الفاتيكان فيديريكو لومباردي.
إلا أنّ البريطانيين، نتيجة للحشد الإعلامي الذي سبق الزيارة، كانوا ينتظرون البابا على عتبة ملف «الاستغلال الجنسي للأطفال» من بعض رجال الكنيسة. ولم يخذل البابا هؤلاء، فتوقف ملياً عند هذه الفضائح والتقى بعض الضحايا. وأعرب عن «حزنه العميق حيال الضحايا الأبرياء لهذه الجرائم المشينة». ورغم وصف صحيفة «الصانداي تايم» للبابا (٨٣ عاماً) بأنّه «جد مقدس» بسبب طريقة مباركته للأطفال خلال القداديس التي أحياها، فقد تظاهر في حديقة هايد بارك اللندنية، حيث أحيا قداساً في الهواء الطلق، نحو عشرة آلاف شخص للاعتراض على الزيارة.
والواقع أنّه قبل الزيارة، كان عدد من البريطانيين يرون أنّ بنديكتوس السادس عشر «ألماني متشدد وسلطوي لا يظهر أي مشاعر». إلا أنّ هذه الصورة تغيّرت على مدار الأيام الأربعة التي قضاها واستطاع عبر «إشارات بسيطة» التقرب من الشعب البريطاني. من هذه الإشارات خروجه عن البرتوكول والتوجه نحو عدد من الحاضرين الزوار في مجلس العموم، ورئيسا الوزراء السابقان منهم مارغريت تاتشر وطوني بلير، أو حضوره القداس في ويستمنستر. ونوّه «البابا الألماني الأصل» بـ«الذين ضحوا بحياتهم، مقاومين بشجاعة قوات العقيدة النازية الرهيبة» في إشارة إلى المقاومة البطولية للشعب البريطاني في الحرب العالمية الثانية. كذلك أعجب بعض البريطانيين بحديثه عن «العلمانية المفرطة» وتشديده على دور الدين الحيوي في الثقافة.
وقد مثّلت التصريحات التي تناولت موضوع الاستغلال الجنسي للأطفال من كهنة، وصدرت على دفعات خلال الزيارة، محور اهتمام الرأي العام البريطاني. ووصف بنديكتوس هذه الأعمال بأنّها «تجاوزات معيبة تزعزع على نحو خطير صدقية المسؤولين في الكنيسة»، وعبر عن «الخجل إزاء الألم الكبير الذي سببته الاعتداءات الجنسية على الأطفال». وجدد التعبير عن «حزنه العميق» في لقاءات مغلقة مع ضحايا أعمال التحرش الجنسي التي ارتكبها قساوسة وكهنة وصفهم بأنّهم جلبوا «العار والإهانة» على أنفسهم وعلى الكنيسة الكاثوليكية.
غير أنّ جمعيات تتحدث باسم الضحايا قالت إنّها «غير راضية». ووصفت إحداها عمليات محاسبة الأساقفة بـ«العلاقات العامة». ونقلت الصحافة عن إحدى الناشطات، التي تعرضت وهي طفلة لاعتداء، قولها «إنّ الاعتذار هو ما يفعله تلميذ مدرسة عندما يركل كرة ويكسر زجاج نافذة». وطالبت البابا بأن «يفرج عن كلّ الملفات الخاصة بالقساوسة الذين اعتدوا على الأطفال».
ونُشر تقرير عن الانتهاكات العديدة التي قام بها رجال دين كاثوليكيون في إيرلندا، ما أثار موجة عارمة من الاستياء، وخصوصاً بعد الكشف عن «تغطية الكنيسة» لهذه الأفعال. وجاءت هذه الفضيحة في سياق سلسلة فضائح مماثلة في ألمانيا وبلجيكا.
إلا أنّ مسألة التحرش الجنسي لم تكن الوحيدة التي أنزلت البريطانيين إلى الشوارع للاحتجاج على زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية، فقد حمل آلاف المتظاهرين على «مواقف الفاتيكان المتخلفة» في موضوع «المثلية الجنسية ووسائل منع الحمل»، إضافة إلى مسألة «ترسيم نساء كهنة» كما يحصل في الكنائس البروتستانية.
ورغم الارتياح الكبير عموماً للزيارة، إلا أنّ عدداً من المحللين تساءلوا عن تأثيرها على العلاقات البعيدة المدى بين الكنيسة الكاثوليكية وبريطانيا عموماً والكنيسة الأنغليكانية خصوصاً. ورأى البعض أنّ الفاتيكان لم يقم بالخطوات اللازمة لإجراء مصالحة مع الجناح الأكثر ليبرالية في الجالية الكاثوليكية البريطانية. إذ يتساءل المثليون الكاثوليك عن نظرة الفاتيكان إليهم. وانتقدت بعض الصحف عدم إحداث تقارب بين المؤمنين والملحدين، وهما التياران اللذان يمثّلان هيكلية المجتمع البريطاني المتجه نحو علمانية متزايدة، في ضوء وجود جاليات عديدة من أديان أخرى، وخصوصاً المسلمين والهنود.