قصّة انقلاب دعمته واشنطن بجرائمه وسجنه وتعذيبهما حصل في 12 أيلول 2010 في تركيا، محا جزءاً من الآثار الدستورية لانقلاب 12 أيلول 1980، لكنه قاصر عن إزالة ما بقي من ذلك الحدث على الصعد السياسية والاجتماعية والنفسية والتاريخية

أرنست خوري
عند الحديث عن أهمية التعديل الدستوري الذي شهدته تركيا يوم الأحد الماضي، يأتي الكلام على المواد الدستورية الـ 25 المعدَّلة، في كفّة، وإلغاء المادة الـ15 من الدستور، التي كانت تحصّن انقلابيّي 12 أيلول 1980 من أيّ ملاحقة قضائية، في كفّة أخرى، علماً بأنه سبق لانقلابيّي 27 أيار 1960 أن وضعوا مثيلاً لهذا البند كان رقمه 4 في دستور 1961.
وباختيار موعد 12 أيلول 2010 للاستفتاء، كأنّ المطلوب كان إبلاغ الجنرال ـــــ الرئيس كنان إيفرين ورفاقه رسالة مفادها أنّ تركيا ستسجّل أول محاكمة لرئيس جمهورية أمام قضاء مدني.
وبالفعل، حالما نجح الاستفتاء بنيل موافقة 58 في المئة من الشعب التركي، هرع مواطنون وصحافيون وفنانون وسياسيون، أكراد وشيوعيون وإسلاميون وليبراليون إلى المحاكم لرفع الدعاوى ضدّ إيفرين والباقين. التهم كثيرة، أبرزها: جرائم ضد الإنسانية، اغتصاب الدستور والقوانين، قتل جماعي، السجن التعسفي... لائحة طويلة من الاتهامات تشهد على أحد أسوأ انقلابات القرن العشرين، الذي كشفت الأيام أنّ إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر كانت الداعم الأول له، عندما كانت تركيا خاصرة رخوة لأوروبا المهدّدة بـ«الخطر» الشيوعي.
وقبل سرد بعض ما حصل في ذلك الانقلاب، تجب الإشارة إلى مفارقة أنّ رئيس الحكومة الأسبق نجم الدين أربكان، هو السياسي الوحيد الذي تضرّر من انقلاب 1980، ووافق على تعديل الدستور، بينما رفض سليمان ديميريل ذلك، رغم أنه أُطيح في الانقلاب من رئاسة الوزراء وسُجن برفقة بولنت أجاويد، في سجن على جزيرة في بحر مرمرة. كذلك، رفض حزب «الحركة القومية التركية» الفاشيّ، تعديل الدستور رغم أنّه كان من أكبر المتضررين من الانقلاب، بعدما سُجن زعيمه في حينها، ألبرسلان توركيش إلى جانب أربكان في أنقرة. وحال حزب أجاويد، «حزب اليسار الديموقراطي»، وأرملته رشوان أجاويد مشابهة، بعدما رأيا أنه ليس مناسباً محاكمة الانقلابيين.

خلفيات الانقلاب وجرائمه

منذ وضعت الولايات المتحدة تركيا في خانة الدول الممنوع وصول الشيوعيين إلى حكمها، كان كل شيء مباحاً لحلفائها الداخليّين لتحقيق هذا الهدف، وخصوصاً عبر تصفية الشيوعيين والأرمن والأكراد والتخلص منهم قبل انقلاب 1960 وبعده. واستفاد الانقلابيون من الانقسام الحاد الذي هيمن على تركيا في فترة الحرب الباردة، وخصوصاً بعد المجزرة التي راح ضحيتها 34 من العمال واليساريين الذين كانوا يُحيون عيد العمال في مطلع أيار 1977 في «ساحة تقسيم» في إسطنبول، وما تلا ذلك من شبه حرب أهلية دامت نحو 3 سنوات. وبعد 1980، شُطب عيد الأول من أيار من لائحة الأعياد الرسمية، وبرّر إيفرين انقلابه برغبة الجيش في وضع حدّ لفوضى وعنف تلك السنوات، مع أن أرشيف السنوات اللاحقة أثبت أن الجنرالات كانوا قادرين على وقف عنف تلك المرحلة قبل الانقلاب، إلّا أنهم ارتأوا ترك العنف يزيد للانقضاض في اللحظة المناسبة، وهكذا حصل.
وفي 12 أيلول 1980، احتل الجيش البرلمان، وصادر مكاتب الأحزاب وممتلكاتها، وسجن النواب والوزراء، واعتُقل بسرعة قياسية نحو 650 ألف مواطن، وصدرت بعدها لائحة سوداء تتضمن اسم 1.7 مليون تركي ممنوعين من السفر.
حُوكم بعد الانقلاب، 210 آلاف شخص عسكرياً، من بينهم 98404 أشخاص بسبب انتمائهم إلى «منظمات غير شرعية»، أي إلى جميع الأحزاب والنقابات. كما سُجن 71000 على خلفية انتماءاتهم السياسية والفكرية.
ونال اليسار التركي حصة الأسد من ممارسات الانقلابيّين؛ فمن أصل 50 أعدموا، 18 كانوا شيوعيين ويساريين، 8 يمينيين و23 كانوا مجرمين جنائيين وأرمني واحد. وبين 1980 و1984، قُتل 1635 شخصاً على يد الانقلابيين، عُرفَت أسباب بعضهم؛ 171 في السجون بسبب التعذيب، و299 بسبب «ظروف سجنهم» و14 بعد إضراب عن الطعام داخل الزنزانة، و16 بعدما حاولوا الهرب، و300 «لأسباب مجهولة» بينهم قُصّر. وإضافةً إلى هؤلاء، سُجّل مقتل 90 شخصاً خلال «اشتباكات في السجن» و73 ميتة طبيعية في السجون، و«انتحار» 43.
وبالأرقام أيضاً، منع 388 ألف شخص من مغادرة البلاد طيلة حياتهم، وطرد 30000 من وظائفهم الرسمية، ونُزعت الجنسية عن 14000 تركي، وهرب 29500 إلى أوروبا، وحكم بـ 4000 سنة سجن بحق 400 صحافي قُتل 3 منهم نهاراً، واعتُدي على 300، وأحرق 39 طناً من الصحف وعشرات الأطنان من الكتب الماركسية والإسلامية كان خطرها بمثابة «بندقية الكلاشنيكوف» بمصطلحات الانقلابيين.
وعلى الصعيد الثقافي أيضاً، حُرق 937 فيلماً، وأُغلقَت 23677 جمعية ومنظمة وأُقيل 129 أستاذاً جامعياً و47 قاضياً من وظائفهم.
اليوم، يمكن محاكمة 3 فقط من الجنرالات الانقلابيين الخمسة بما أنهم لا يزالون على قيد الحياة، وهم الجنرال الرئيس كنان إيفرين والجنرالَان تحسين شاهين كايا ونجات تومر. لكن يمكن أيضاً مقاضاة عشرات السياسيين الذين ألّفوا حكومات إيفرين وبولنت أولوسو، والبرلمانات الانقلابية، وخصوصاً بين عامي 1980 و1983.