strong>انقلاب ديموقراطيّ على انقلاب 12 أيلولما كان ممكناً أن يمرّ اليومان الماضيان، على أكثر من نصف الأتراك، بأفضل ممّا مرّا عليهم. من جهة، وصلوا إلى نهائي كأس العالم لكرة السلة، ومن جهة أخرى، نال استفتاء حكومتهم على التعديلات الدستورية، غالبية شعبيّة أكثر من مُرضية. تعديلات يُفترض بها أن تدفن إرثاً ثقيلاً من التقاليد الـ (لا) دستورية والـ (لا) اجتماعية والـ(لا) سياسية لانقلاب 12 أيلول 1980. أصبح دستور تركيا أكثر مدنيةً وديموقراطية وملاءمة للمعايير الأوروبية. نجح رجب طيب أردوغان بـ«بروفا» استحقاقَين مقبلَين: الانتخابات التشريعية الصيف المقبل، واستفتاء منتظَر على دستور جديد بالكامل. كذلك جسَّ نبض مواطنيه على فكرة «أردوغان رئيساً لجمهورية» نظامها رئاسي

أرنست خوري
ارتدت تركيا، نهاية الأسبوع الماضي، حلّة جديدة أكثر مدنية وديموقراطية. الزي العسكري بات حكراً على الثُّكن. أما الحكم، فبات حصراً من مهمّات الساسة، وإن بقيت مهمة الحفاظ على الجمهورية والعلمانية من مهمّات الجنرالات.
حدث تاريخي بامتياز، لعل الفضل الأكبر في حدوثه يعود إلى رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، الذي أضاف بهذا النصر «الاستفتائي» إنجازاً جديداً إلى مسلسل إنجازاته الداخلية والخارجية. اخترع لمواطنيه موعداً سنوياً جديداً لإحيائه: 12 أيلول. تاريخ كان، حتى يوم أمس، يعيد إليهم أسوأ الذكريات، تلك المتعلقة بانقلاب عام 1980. بذلك، يكون نحو 30 مليون مواطن تركي قد انتقموا لآبائهم ولأجدادهم من ضحايا الانقلاب؛ عدّلوا 25 مادة دستورية انقلابية، وحذفوا مادة حَمَت طويلاً منفذي الانقلاب ومخطّطيه.
10 ساعات حاسمة عاشها الأتراك، انتهت بنتيجة أكثر من مُرضية للحكومة ولرئيسها وللاتحاد الأوروبي ولصحافة ووكالات أنباء عالمية تابعت، إلى جانب عواصم العالم، الحدث بتفاصيله، لعلمها بمركزية موقع تركيا على الساحتين الإقليمية والعالمية.
نحو 49 مليون ونصف مليون ناخب، إضافةً إلى نحو 2.5 مليون مسجّلين في الخارج لدى لجنة الانتخابات كانوا معنيّين بالاستحقاق. اختار 58 في المئة منهم (نحو 30 مليوناً) الجزء الأيسر من الورقة المطبوعة عليها سلفاً كلمتا نعم ولا. نتيجة أكثر من ممتازة لأصحاب التعديل الذين رأوا سلفاً أنّ نسبة 55 في المئة ستكون نتيجة مُرضية لهم. وقد يكون الدليل الأبرز على أهمية استفتاء الأحد، أنّ المشاركة وصلت إلى 78 في المئة من الناخبين، وهي نسبة نادر حصولها في جميع الديموقراطيات الغربية.
وبعد نجاح التعديلات الدستورية أمام امتحان الشعب، يمكن اختصار أهمّ النقاط التي تغيّرت في الدستور التركي:
ـــــ على صعيد الحريات العامة والحقوق الشخصية، بات منع السفر على أيّ مواطن محصوراً بموجب قرار قضائي فقط، بالتالي، فإنّ ما كان يُعرَف بـ«اللائحة السوداء» (لائحة بأسماء مواطنين تطلب الأجهزة الأمنية منعهم من مغادرة البلاد لأسباب سياسية غالباً) ستزول، وهي كانت من أبرز تداعيات انقلاب 12 أيلول. كما ستصبح المعلومات الخاصة بالمواطنين محميّة بإطار السرية، على أنه يحق للمواطنين طلب الحصول على سجلات السياسيّين. ومن بين ما حمله التعديل الدستوري من تغييرات كبيرة، أنه أصبح رسمياً «دستوراً منحازاً لمصلحة النساء والأطفال والطاعنين في السن»، إذ بات يتضمّن بنداً يكفل المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، إضافةً إلى حماية ومعاملة وامتيازات خاصة للأطفال والكبار في السن.
ـــــ على صعيد البنود التي تتعلّق بتنظيم عمل الأحزاب، اكتفى التعديل الدستوري بكفالة حق النواب في الاحتفاظ بمقاعدهم النيابية حتى ولو جرى حظر أحزابهم، علماً أنه وُجهّت ضربة إلى التعديلات الدستورية، عندما أُسقط منها بند كان سيحصر حق حظر الأحزاب بالبرلمان، لا بالمحكمة الدستورية، كما هو حاصل حالياً.
ـــــ قضائياً، ضُرب دور الجيش في السيطرة على السلطة القضائية، من خلال توسيع عدد أعضاء المحكمة الدستورية إلى 17عضواً، للبرلمان حصة في انتخابهم، بعدما كان الحق الأوسع في التعيين بيد الجيش. ومن أبرز ما تغيّر على صعيد المحكمة الدستورية الفائقة الصلاحيات، أنه بات يحق لأيّ مواطن رفع شكوى أمامها.
كذلك حال «المجلس الأعلى للقضاء والمدعين العامين» الذي أصبح يتألف من 22 عضواً. واستُحدث «وسيط الجمهورية» (ombudsman) الموكَل إليه حل خلافات المواطنين مع المؤسسات الحكومية.
وعن ضرب بعض النفوذ العسكري، تضمنت التعديلات بنوداً تحدّ من صلاحيات «المجلس العسكري الأعلى»، بحيث لم يعد ممكناً لهذا المجلس أن يقيل ويصرف ضباطه اعتباطيّاً، على أن يحق للمتضررين من عمل وصلاحيات «المجلس» الطعن في قراراته. والأهم من كل ذلك، أنه أصبح ممكناً مقاضاة العسكريين أمام المحاكم المدنية في قضايا تتعلق بالإخلال بأمن الدولة وبالنظام الدستوري (من بينها التورط في الانقلابات).
ـــــ في ما يتعلق بالبنود والحقوق الاجتماعية النقابية التي تضمّنها التعديل الدستوري، أصبح يحق لموظفي القطاع العام تأليف نقابتهم لمفاوضة الدولة لإبرام عقود عمل جماعية، وتنظيم تظاهرات من دون أن تخشى اتهام الحكومة لها بأنّ تظاهرتها مسيَّسة.
ـــــ أمّا بالنسبة إلى حذف المادة 15 من الدستور، التي كانت تمنع محاكمة منفذي ومخططي انقلاب 1980، فلا يُرجِّح الأتراك أن تبادر الحكومة إلى أخذ حقها بيدها عن طريق مقاضاة كبير مخططي الانقلاب، الرئيس الأسبق (بين 1982 و1989)، الجنرال كنان إيفرين (صورة الكادر)، عبر الحق العام. لكن من شبه المحسوم أن يقوم بذلك أحد الذين لا يزالون على قيد الحياة من بين الـ 650 ألف مواطن الذين سُجنوا بعد الأحداث الدموية، أو أحد ذوي الـ 1700 شخص الذين قُتلوا بسببه بصورة مباشرة أو غير مباشرة أو أحد الـ 14000 الذين هربوا من البلاد بعد الانقلاب. وعندها، سيعرف العالم ما إذا كان الجنرال إيفرين يحترم كلامه أو لا، بما أنه سبق له أن تعهّد بالانتحار إذا فُرض عليه المثول أمام قوس المحكمة على خلفيّة تنظيمه انقلاب 12 أيلول. ومن بين العوامل التي يُرجَّح أن تكون قد أسهمت في انتصار الـ «نعم»، أنّ الرزمة عُرضت على الاستفتاء تحت شعار إما لا لرزمة التعديلات، أو نعم بالكامل. وحتى الأحزاب المعارِضة (الشعب الجمهوري والحركة القومية) قالت منذ طُرح التعديل الدستوري إنها تؤيد البنود المعدَّلة والملغاة، إلّا ما يتعلق بإصلاح القضاء على اعتبار أنّ الحكومة وحزبها الحاكم يرغبان من ورائها في فرض سيطرتها على القضاء وأجهزته. كما يُرَجَّح أن يكون الـ «نعم» قد فاز بفضل الناخبين الأكراد الذين خرج جزء منهم عن توصية حزبهم «السلام والديموقراطية» بمقاطعة الاستفتاء.


سادس استفتاء دستوري

استحقاق الأمس هو الاستفتاء السادس على تعديلات دستورية منذ عام 1961. وقد أجري الاستفتاء الأول في التاسع من تموز 1961، وأُقرّ بموجبه دستور ما بعد انقلاب 27 أيار 1960، بتأييد 61.7 في المئة من الأصوات، وبموجبه أصبح كمال غورسل الرئيس الرابع للجمهورية التركية. وبعد 21 عاماً، صوّت الأتراك على الدستور المعمول به حالياً (المعدَّل 17 مرة)، وذلك عقب انقلاب 12 أيلول 1980. وفضحت النتائج في حينها حقيقة «المهزلة» التي أرغمت الناس على التصويت إيجاباً لمصلحة الدستور الجديد «الأسود» الذي نال تأييد 91.37 في المئة. وألغى الاستفتاء الثالث في 1987، البند الذي كان يمنع السياسيين الذين أُطيحوا في انقلاب 1980، من حق العودة إلى مزاولة العمل السياسي. أما الاستفتاء الرابع، وهو الوحيد الذي جاءت نتيجته سلبية، فكان يهدف إلى السماح بالدعوة إلى انتخابات مبكرة عام 1988.
أخيراً، أتاح استفتاء تشرين الأول 2007، غداة وصول عبد الله غول إلى قصر شنقايا، انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرةً في الدورة المقبلة، لا من نواب الجمعية الوطنية الكبرى (البرلمان).