تصاعد حدّة العداء لـ«الغريب» وإعادة تقويم لتجربة «تعدّد الثقافات»باريس ــ بسّام الطيارة
انتظرت فرنسا تهديداً إرهابياً من الغرب وبالتحديد من الساحل الأفريقي أو على أرضها فجاءها التهديد من الشرق عبر رسالة زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، التي عدّها وزير الداخلية الفرنسي بريس هوتفو مبرّراً «لإبقاء الإجراءات» القائمة لمواجهة الإرهاب، مشيراً إلى أن الخطة الأمنية الموضوعة على درجة «أحمر» تفي حتى الآن بالمطلوب لتأمين حماية الأراضي الفرنسية.
وذكّرت مصادر مقربة من الوزير أنه إلى جانب تهديدات بن لادن المرتبطة مباشرةً باختطاف منظمة «القاعدة في المغرب الإسلامي» خمس رعايا فرنسيين، كانت المملكة السعودية قد بعثت بعدة إنذارات قبل اسبوعين بشأن «تهديد إرهابي كبير» في أوروبا وفي فرنسا بوجه خاص مصدره، حسب الرواية السعودية، تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب». وتقويم التهديد، الذي وصف بأنه «جدي»، كان وراء سلسلة التحذيرات الأوروبية والأميركية من زيارة فرنسا وألمانيا على وجه التحديد. وتقول بعض المصادر إن الصعوبة ليست في تتبّع منطلق التهديدات، التي تحصل بواسطة عمليات تنصت وتحر على الأرض، إضافةً إلى وجود عملاء لاستخبارات عدة دول بين أفراد المنظمات الإرهابية، بل في الوصول إلى منفذيها. إذ إن تغييراً أساسياً قد حصل في أساليب عمل المنظمات الإرهابية منذ بضع سنوات خلت. ويفسر الخبراء أن الهيكلية «السديمية» لتنظيم «القاعدة» باتت تمثّل أكبر عقبة أمام الوصول إلى المنفذين بسبب انتشارهم من دون أي «علاقة هرمية» مع التنظيم الأساسي الموجود في أماكن بعيدة جداً.
تدريب مسلمين أوروبيين في باكستان لا يمثّل إلا نسبة بسيطة من المخاوف الأمنية
ويرى الخبراء أن عملية خطف عمال شركة الصناعات النووية العملاقة «أريفا» في شمال النيجر أفضل مثال على ذلك، إذ إن الإعلان عن «أهداف عملية الخطف» جاء من جانب بن لادن بعد نحو ٤ أسابيع من تاريخ العملية (٣٠ أيلول) التي تبناها تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي».
ويقول أحد الخبراء إن عامل تدريب مسلمين أوروبيين في باكستان لا يمثّل إلا نسبة بسيطة جداً من الإرهابيين الذين تتوجس منهم الأجهزة الأمنية، وخصوصاً أن ضبط التنقلات بين البلدان بات شبه محكم، وأن العناصر الخطرين تحت مراقبة قوية.
وبالطبع عند ملامسة حدود هذه التفاصيل في أوروبا ينتقل الحديث من الإطار الجنائي لـ«محاربة الإرهاب» إلى إطاره السياسي، الذي هو اليوم في لب التحولات الاجتماعية التي تشهدها القارة الأوروبية، ويفسر التوجه اليميني العام للمجتمعات الغربية، التي بدأت تعيد تقويم تجربتها في هذا المجال، من السويد إلى ألمانيا مروراً بالطبع بفرنسا، وما شهدته من جدل حول الهوية الوطنية وانصهار المهاجرين المسلمين في المجتمع. ففي ألمانيا، رغم أن البلاد تعيش وسط جدل قوي يدور حول «قدرة المهاجرين على الاندماج في البيئة الألمانية»، أثار حديث المستشارة أنجيلا ميركل الدهشة، عندما أعلنت أن النمودج الألماني المتعدد الثقافات قد «فشل تماماً» في صياغة تنوع ثقافي، إذ إنها المرة الأولى التي تصدر فيها تصريحات من أعلى شخصية في البلاد «تذهب مباشرةً إلى لب موضوع الاندماج». صحيح أنها أردفت تصريحها بالحديث عن «الضروريات الاقتصادية لهجرة الاختصاصيين»، إلا أن الجميع فهم أنها لا تقصد «عمال التنظيفات أو البناء الأتراك أو المغاربة». فالمستشارة، التي تواجه تراجع شعبيتها، تحدثت أمام «شباب حزبها» المحافظ، الاتحاد المسيحي الديموقراطي، في الوقت الذي كان فيه رئيس فرع الحزب نفسه في بافاريا يصرح «إننا ملتزمون بالثقافة ذات المرجعية الألمانية»، معلناً رفض تعدد الثقافات.
السعودية بعثت بعدة إنذارات قبل أسبوعين بشأن «تهديد إرهابي كبير» في أوروبا
في السويد، عاد التوتر إلى ساحة الهجرة والمهاجرين، ولم تعد العناصر اليمينية الشوفينية المتطرفة تخفي أفكارها العنصرية المتشددة، ما يفسر حصول الحزب الديموقواطي السويدي اليميني المتطرف على عشرين مقعداً في انتخابات الشهر الماضي. في هولندا، أثبتت استطلاعات الرأي الأخيرة أن الأفكار اليمينية التي يحملها تيار بيم فورتاين، المعروف بعدائه للأجانب والمهاجرين والمسلمين بصفة خاصة، تشهد ارتفاع شعبيتها لدى شرائح واسعة من المجتمع، ما دفع به إلى المطالبة بطرد الأجانب من بلاده.
في فرنسا، لم يثر الرئيس ساركوزي مسألة الهجرة والمهاجرين والهوية الوطنية، إلا لأنه يدرك أنّ شريحة واسعة من مواطنيه باتت «تخاف من الغريب»، وأن الجبهة الوطنية المتطرفة يمكنها أن تقطف ثمار هذا الخوف والتطرف في المجتمع في الانتخابات المقبلة.
بالطبع ثمّة عوامل اقتصادية لكره المواطن الأوروبي للمهاجر عموماً في ظل تقلص فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة وتراجع القدرة الشرائية، إلا أنه لا جدال أيضاً في وجود عنصريين في كل المجتمعات، ولا ريب أيضاً في أن هؤلاء لعبوا على عامل الخوف الذي تولّد جراء أحداث ١١ أيلول الإرهابية لتأجيج الخوف من الإسلام عموماً، ثم جاءت أحداث «إرهابية فردية» لتصوّب هذا الخوف نحو داخل المجتمعات الغربية حيث تعيش جاليات عربية ومسلمة. ويرى الخبراء أن تنظيم «القاعدة» يستعمل أحسن استعمال هذا الخوف ويلوّح بإمكان لا يملكه بالفعل بل يعتمد على «تحرك فردي» لفرد أو لجماعة يعود ويتبناها ضمن استراتيجية نزاعه الكبير مع الغرب.


دان وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير تهديدات أسامة بن لادن، مشيراً إلى أنها «غير مقبولة»، مؤكداً أنّ «مستوى التيقظ مرتفع جداً» في فرنسا. وقال كوشنير لوكالة «فرانس برس» وإذاعة فرنسا الدولية (ار اف اي) إن «هذه التهديدات غير المقبولة ليست جديدة». ورأى أن بن لادن «برهن على انتهازية» بإدلائه بهذه التصريحات. وأضاف «لم نستغرب وأبقينا مستوى التيقظ والاستعداد بكل ما يعنيه الحد الأقصى، وسنواصل تطبيق ذلك».