المصارف تجرّ إيرلندا إلى 50 مليار يورو من الديونبسّام الطيارة
كان يا ما كان زمن أطلق فيه اسم «النمر الأخضر» على إيرلندا، بسبب نموّ اقتصادي كان ينافس نموّ النمور الآسيوية. هذا الزمان ذهب وولّى، وباتت إيرلندا تعيش واقع أزمة اقتصادية منذ سنتين، تعيث فيها عطالة وإفلاساً. الأرقام باتت من دون معنى في بلاد غاصت كل أرقامها وتراجعت تراجعاً لم يسبق له مثيل، إلا في ثلاثينيات القرن الماضي، وسبّب هجرة نسبة كبيرة من سكانها إلى الولايات المتحدة ليؤلّفوا أكبر جالياتها.
يصادف هذا الشهر ذكرى مرور سنتين على «إفلاس» غير معلن للدولة. قبل هذا التاريخ، كانت معدلات النموّ تقارب ١٣،٨ في المئة، فيما سوق العقارات شهد ارتفاعاً بنسبة ٣٣٠ في المئة في أقل من عقد. المصارف وجشع المضاربين وغياب أي رقابة أسهمت مباشرة في دفع سوق العقارات نحو الهاوية. كل إيرلندي له هدف واحد في الحياة «تملّك منزل»، وقد لعب الوسطاء على هذا الوتر الحساس، فقدموا تسهيلات تجاوزت في بعض الأحيان قدرة المستدينين على السداد في خمسين سنة أو أكثر. النتيجة عندما انفجرت فقاعة العقارات: ٣٠٠ ألف منزل مرهون ومعروض للبيع بأبخس الأثمان، ومدن أشباح فيها أحياء كاملة مهجورة تبحث المصارف عمن يقبل بشرائها.
العطالة، في سنة واحدة، تضاعفت نسبتها ثلاث مرات، بعدما توقفت ورشات البناء وشلّت حركة المصانع الصغيرة التي كانت تمثّل عصب اقتصاد الجزيرة. وبعدما كانت نسبة العطالة أقل من ٤ في المئة قبل عشرة أعوام، باتت اليوم بحدود ١٤ في المئة، وانخفض ما يحصل عليه العاطل من العمل إلى ١٩٦ يورو شهرياً، أي أقل من ٢٠ في المئة من الحدّ الأدنى للأجور، وبالتالي تراجع الاستهلاك بنسبة ٧ في المئة، ولم يكن أمام الحكومة سوى إعلان دخول البلاد في حالة ركود مماثلة لما حصل في إيسلندا، الجزيرة الشقيقة.
الانعكاسات على الصعيد الاجتماعي باتت رهيبة، وتطال نسبة كبيرة من المواطنين. الإجراءات التقشفية للحكومة خفضت مداخيل المواطنين بنسبة ١٥ في المئة، وحُسمت ١٠ في المئة من المساعدات الاجتماعية لذوي الدخل المحدود، وأصاب الفقر ما يزيد على ٥٨٣ ألف عائلة. وقد أظهرت التقارير أن ٧٠ ألف عائلة باتت عاجزة عن دفع مترتبات الضمان الاجتماعي، وخرجت بالتالي من نظام الحماية الصحية، ما يمكن أن يقود إلى حالات مرضية خطرة.
يعرف الجميع أن اللهاث وراء القروض الميسرة، التي كانت تروّج لها المصارف، أسهم مباشرة في الانهيار المالي للمصارف، وجرّ في سياقه انهياراً لمالية الدولة. ويتحدث البعض كيف كانت القروض تفتح أبواب «جنة الاستهلاك»، بحيث ارتفع مبيع السيارات الفاخرة والرباعية الدفع بنحو لم يشهده بلد آخر. وتقول ليز، وهي مدرسة، «كنت أعيش وأصرف مرتين قيمة مدخولي الشهري». وتضيف «كنت أنقل أولادي إلى المدرسة بسيارة رباعية الدفع جديدة». تتنهد وتتابع «كان يكفي أن أسحب بطاقة مصرفي لأحصل على ما أريد».
حال ليزا تشابه ٩٩ في المئة من الحالات في إيرلندا، حيث شجعت المصارف زبائنها على الاقتراض بفوائد مرتفعة، نسبة إلى أسعار فوائد السوق، وحوّلتها هذه الديون إلى «أوراق عفنة» رمتها في البورصات العالمية وقطفت ثمنها مسبقاً، تماماً كما حصل في الولايات المتحدة. وقاد انهيار النمو، وخصوصاً انفجار فقاعة العقارات في إيرلندا، إلى انهيار شامل.
إلا أنه، كما يقول بريان وهو موظف في شركة تجارية، «لم تحاسَب المصارف». النتيجة كانت تراكم خسائر بقيمة ٥٠ مليار يورو، يضع عدد كبير من المراقبين اللوم فيها على مصرف «أنغلو أيريش بنك»، الذي بلغت «قيمة أوراقه العفنة» غير القابلة للتصريف ٣٠ مليار يورو.
ويتساءل البعض أين الحكومة؟ الحكومة تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلا أن وزير المال بريان لينيهان لا يتردد في طمأنة مواطنيه إلى أن «المدارس العامة والمستشفيات لن تقفل». إلا أنه يضيف، ولكن علينا «إعادة النظر في مجمل نظام خدماتنا العامة»، أي بنحو أو بآخر التوجه نحو نهج الخصخصة التي استطاعت إيرلندا أن تنجو منها إبان حقبة النمو.
وقبل أيام «جلست الحكومة مع المعارضة» للتباحث في وسائل ناجعة لإقرار «سياسة تقشف غير مؤلمة» لخفض العجز في الميزانية العامة من ٣٢ في المئة إلى ٣ في المئة بالنسبة إلى الناتج القومي، علماً بأن هذا العجز هو نتيجة «مساعدات مكثفة لإنقاذ النظام المصرفي الذي كان سبب الكارثة». إلا أن الأهم من الالتفات إلى مسبّب الكارثة، هو أن على المسؤولين الإيرلنديين إبراز جبهة داخلية متماسكة تعيد الثقة إلى الأسواق المالية وتبرز القدرة على تنفيذ سياسة التقشف من دون خضات سياسية، ما يعيد فتح أبواب أسواق الرساميل أمام الحكومة. إلا أن إيامون غيلمور، زعيم حزب «العمل» المعارض، قال إن من غير الممكن التوافق على خطة التقشف لأربع سنوات التي وضعتها الحكومة المحافظة، وطالب بحكومة وحدة وطنية تعمل لأربع سنوات، وهو ما يمكن أن يحصل في الانتخابات المقبلة إذا خسر اليمين الحاكم أكثريته.
في هذا الوقت، قال وزير المالية الإيرلندي إنه لا يزال يعارض فكرة قبول حاملي السندات لخسائر تقترب من 50 مليار يورو من خلال خطة إنقاذ المصارف التي تم إعلانها قبل أسبوعين.
إلا أنه في الوقت نفسه، أعرب عن تأييده لإجراء «محادثات ودية» مع كبار حاملي السندات إذا قبل بنك «أنغلو» ومؤسسة «أيرش نيشن ويد بيلدنغ» ذلك.


مسدس المضاربات

هل باتت علامات «موديز أو فيتش» التي تقوّم ملاءمة الدول غير ذات قيمة؟ فقد خسرت إسبانيا علامة AAA بسبب إعلانها عجزاً بلغ ٩،١ في المئة في عام ٢٠١٠. ورافق ذلك إعلان البرتغال عجزاً بلغ ٧،٣ في المئة، وأُنزل تقويم إيرلندا مرتين بعد إعلان عجز يتجاوز ٣٢ في المئة، دون أن يسبّب ذلك أي أزمة. واستمرت أبواب سوق الاقتراض مفتوحة لإيرلندا وإسبانيا والبرتغال، واستمر اليورو بالارتفاع بالنسبة إلى الدولار، ليعود ويحتل مركزه التاريخي ١،٤ دولار لليورو. التفسيرات كثيرة، أهمها أن منطقة اليورو باتت تملك وسيلة فعالة لمحاربة المضاربات على عملتها، وهي صندوق الاستقرار المالي (EFSF) الذي يستطيع الاقتراض في الأسواق العالمية بـ٤٤٠ مليار يورو، يضاف إليها ٦٠ مليار يورو وضعتها المفوضية الأوروبية في تصرّفه و٢٢٠ ملياراً تعهّد صندوق النقد الدولي بتقديمها في حال الضرورة. وقد شبّه البعض هذه الوسائل بـ«المسدس الموضوع على الطاولة» لردع المضاربين.