لعله الحدث الداخلي الأهم في إيران منذ الثورة الخمينية. حدث مفصلي لا شك في أنه سيطبع حياة الجمهورية الإسلامية لعقود مقبلة. هي زيارة المرشد علي خامنئي إلى قم، حيث حصد ثمرة سنوات من العمل على جيل حوزوي جديد فتح الطريق أمام مصالحة قم مع طهران، بمعنى مصالحة الحوزة مع النظام، مجهضاً الرهانات على انقلاب الأولى على الثانية، ومكرساً نظرية «الاعتماد المتبادل» و«المصير الواحد» بينهما

إيلي شلهوب
زيارة تاريخية بلا شك تلك التي أجراها المرشد علي خامنئي إلى قم على مدى الأيام القليلة الماضية. تاريخية بشكلها ومضمونها ونتائجها، التي ستنعكس على أكثر من صعيد في الداخل والخارج الإيرانيين: صالحت قم، بما هي مقر الحوزة، مع طهران، مركز النظام. أزالت «الجفاء» بين ركني الخمينية، النظام والحوزة. بل أخرجت هذه الأخيرة من «قمقمها» باتجاه مركز الحكم حيث «الحراك والتحديث والثورة والنهضة». قضت على آخر أمل، «سواء للمعارضة في الداخل أو للغرب، بانقلاب مراجع الحوزة على خامنئي» الذي يبدو واضحاً من خلال الترحيب الحاشد الذي لقيه في قم، حيث «خرج كبار العلماء كلهم لاستقباله»، ومن خلال تفاصيل الزيارة، أنه تكرس في خلالها «زعيماً وقائداً لقم في الدين والسياسة».
على الأقل هذا ما تؤكده مصادر إيرانية قريبة من أروقة صناعة القرار في طهران، مشددة على أن الزيارة، «وهي الأولى من نوعها منذ نحو عقدين، بل ربما منذ زيارة الإمام الخميني مع انتصار الثورة»، مزدوجة الأهداف. وتوضح المصادر أن «الشق الأول منها، وهو الأساسي، عبارة عن استنهاض للخمينية التي كانت قد ترهلت لدى الحوزة والمراجع في قم إلى الحد الذي بدت فيه المدينة وكأنها في حالة هجر مع الخمينية. استنهاض من أجل إعادة صياغة وتحديث الإسلام السياسي الذي قامت عليه الثورة ونظام الحكم، بناء على التطورات الحاصلة في الداخل وفي الإقليم وفي العالم».
أما الشق الثاني، تتابع المصادر نفسها، فهو «إطلاق رصاصة الرحمة، أو إسدال الستار، أو إغلاق آخر ثغرة تنفذ منها الرهانات على الوقيعة، التي طالما منّت المعارضة الإيرانية النفس بها، بين قم وبين طهران»، مشيرة إلى أن «خامنئي، وفي خلال زيارته هذه، قد أدخل قم مرة ثانية في صناعة القرار الطهراني (نسبة إلى طهران)، أو بمعنى أصح في الحكم المركزي».
وتتحدث هذه المصادر عن أن «الأشهر القليلة الماضية، وتحديداً منذ أزمة انتخابات الرئاسة الأخيرة، حبلت بكلام وهمسات وتسريبات عن خلاف بين قم وبين خامنئي لم يصل حد المواجهة. راهن كثيرون على حال الجفاء بين الجانبين، والذي فاقمته تطورات السنين الماضية، وخصوصاً في عهد (الرئيس محمود أحمدي) نجاد».
ومعروف عن الحوزة الدينية في قم «أصوليتها». هي عبارة عن مجمع «محافظ»، تقليدي، في مقابل طهران، «مركز الإسلام الثورية النهضوي الحداثوي». لطالما كانت قم على هذا النحو، قبل الثورة الخمينية وبعدها، فيما طهران «تخوض معاركها مع الغرب بسياسة حافة الهاوية. لم تكن قم لتستوعب هذه السياسة التي يقودها خامنئي».
وترى المصادر نفسها أن «الزيارة (إلى قم) إن دلّت على شيء، فعلى نجاح خامنئي، وفي خلال أشهر وسنوات من العمل الدؤوب، ولكن بصمت، في إزالة هذا الجفاء مع قم، والدليل استقبالها له بما لم تستقبل به الإمام الخميني نفسه». وتسارع هذه المصادر إلى التأكيد أن «المقصود ليس بأي شكل التقليل من قيمة زيارة الخميني، والتي كانت اسطورية بكل المقايس، بل القول إن الإمام الراحل ذهب إلى قم في أوج انتصار الثورة. ذهب حاملاً معه زخم انتصار طهران. ذهب مسكوناً بطهران. دخل قم ضيفاً عليها حيث لم يتمكن في حينها من تكريس قيادته وزعامته بشقيها السياسي والفقهي». وتضيف «أما خامنئي فقد ذهب إلى قم بعدما صنع فيها انتصاراً على حساب الحوزة التقليدية. ذهب بعدما حضر الأجواء في قم، حيث زرع بذوراً، عمل سنوات بل عقوداً عليها. هناك، في صلب الحوزة التقليدية، ربى جيلاً حوزوياً شبابياً نهضوياً مسيساً طوّق كبار المراجع في الحوزة التي لم يزرها إلا بعدما وصل إلى قناعة، هو وفريق عمله، بأن الأمور قد نضجت وحان وقت حصاد نتائجها. نضج جاء ثمرة الحلقات الطهرانية التي أنشأها في الحوزة حيث طوقت قم المحافظة».
وتتابع المصادر «هذا من ناحية. لكن هناك فارقاً آخر، وهو أن خامنئي ذهب إلى قم زعيماً وقائداً مكرساً لها في الشقين الحوزوي الديني والسياسي. دخل خامنئي قم وفي رصيده لائحة طويلة من النجاحات في الداخل والخارج، من النووي إلى فلسطين ولبنان والعراق وغيرها، ومعها لائحة أخرى من المواقف النهضوية، سواء من أهل السنة او أميركا أو إسرائيل أو العلاقة مع حزب الله أو فلسطين. كما أنه قدم مادة غزيرة على مستوى المرجعية أعطته رصيداً فقهياً، وخصوصاً في ما يتعلق بالركيزتين الرئيسيتين اللتين تقوم عليهما الخمينية وهما: لا عبادات ولا فقه من دون سياسة وحكم. ولا إسلام ثورياً من دون مؤسسة حوزوية دينية. أي الربط بين النخب المدنية والنخب الدينية. وفي سجل خامنئي في هذا الإطار ما يكفيه من رصيد، بحيث إنه لما ذهب إلى قم لم يكن هناك من يستطيع أن ينافسه أو يشاكسه. النتيجة كانت أن قم كلها بمراجعها كلها من دون استثناء، خرجت لاستقبال خامنئي في الشارع».
وتستنتج هذه المصادر أن «خامنئي استطاع أن يضخ حركة دينية في قم بما أخرج العلماء من قمقهم الفقهي ودفع بهم إلى أخذ موقع متقدم في الصراع في الخارج. أصبحت قم مثل طهران، أدخلها في المواجهة السياسية. غير أن الاستقبال لم يكن لشخصه وحده، بل للفرق الجامعية والحوزوية ومعها الحرس وباقي أجهزة الحكم المعنية التي تعمل إلى جانب خامنئي».
ومعروف عن الحوزة الدينية في قم أنها، ومنذ تأسيسها قبل نحو ألف عام، تأخذ مسافة من طهران، من مركز الحكم. وتقول المصادر «من هنا كان تكرار خامنئي أكثر من مرة أن الحوزة يجب أن تكون مستقلة لكن ممنوع عليها أن تكون على خلاف أو شقاق مع نظام الحكم. كما كرر أن من يقول إن الدين يمكن المحافظة عليه وأن يقود المجتمع والدولة من دون المؤسسة الحوزوية هو أيضاً على خطأ ويتآمر على الحوزة. ومن هنا كان تشديده على أن لا نظام اسلامياً بلا رجال دين، وهجومه على الحجتية وأنواع العرفان والتصوف المنحرفة والإسلام الأميركي الذي يريد أن يفصل بين الديني والسياسي. رآهم جزءاً من الحرب الناعمة التي تريد أن توجد قطيعة بين طهران وقم. لقد ردم الهوة التي تفصل بين المدنيين ورجال الدين. بين الحوزة ونظام الحكم. بهذا المعنى أعاد إحياء الخمينية بما هي خروج عن المألوف».
وكان خامنئي قد أكد في كلمته أمام حشود مستقبليه في قم أن «النظام الإسلامي، وفي الصميم منه الحوزات العلمية، تياران عظيمان مرتبطان ببعضهما من زوايا وأبعاد عديدة، والواقع أن مصير كليهما واحد»، مشدداً على أن «أي ضربة توجّه للنظام الإسلامي تؤدي إلى ضربة شديدة توجه للحوزات العملية وأهل الدين».
ورأى خامنئي أن «العلاقة بين الحوزات العلمية والنظام الإسلامي هي علاقة دعم ونصيحة، ودفاع إلى جانب الإصلاح»، مؤكداً «الاعتماد النظري والعلمي للنظام على الحوزات العلمية» و«اهتمام الحوزة ورجال الدين بالنظام».
وأوضح خامنئي، الذي وصف قم بأنها «الأم التي أنجبت النظام»، أن «النظام الإسلامي يحتاج نظرياً وعملياً إلى علماء الدين والحوزات العلمية، ويعتمد على جهودهم ويتشجع بها»، مشيراً إلى أنه «بسبب الذات والماهية الدينية للجمهورية الإسلامية يقع التنظير في الحقول كلها، بما في ذلك السياسة والاقتصاد والإدارة والقضايا التربوية وسائر الأمور المهمة لإدارة البلاد، على عاتق رجال الدين، أي العارفين بالإسلام والمتخصصين في قضاياه».
وكان خامنئي حريصاً على التأكيد أنه «كما كان رجال الدين الشيعة مستقلين طوال تاريخهم، سيبقون اليوم أيضاً بفضل من الله وفي المستقبل مستقلين»، لكنه حذر من أن «البعض يريدون تحت طائلة الاستقلال فصم الأواصر بين الحوزات والنظام. من الواضح أن التبعية غير الدعم والتعاون، ويمكن العمل على التعاون المتبادل إلى جانب الحفاظ على الاستقلال»، مشيراً إلى أنه «من واجب النظام، ومن دون التدخل في قضايا الحوزات، أن يساعدها، لأن في هذه المنظومات والمجاميع قضايا لا يمكن معالجتها إلا بمساعدات بيت المال».
وأكد خامنئي أن «ما من منظومة قيمة يمكن أن تحظى بالاحترام الحقيقي بسبب عزلتها وعدم فاعليتها، ذلك أن المنظومات الحيّة والفعالة والمؤثرة فقط هي التي تثير الاحترام الحقيقي لدى الأصدقاء، وحتى لدى الأعداء»، مشدداً على أن «رجال الدين الشيعة عموماً كانوا في صميم الأحداث الاجتماعية والسياسية، لذلك فإن لهم عمقهم ونفوذهم بنحو لا يتوفر لأي منظومة من رجال الدين المسلمين وغير المسلمين في العالم».
وكانت لافتة إشادة خامنئي برابطة مدرسي الحوزة العلمية في قم، قائلاً إن من واجباتها المهمة «الحفاظ على العلاقات مع المراجع العظام وتعزيزها، ذلك أن جماعة المدرسين هي منبت المراجع المحترمين، وبعضهم كانوا من أعضاء جماعة المدرسين»، ومشدداً على أن «على جماعة مدرسي الحوزة العملية في قم، عن طريق الاستقطاب المستمر للطلبة النخبة والفضلاء المميزين في الحوزة، تأليف كيان قوي وواسع وكفء لها، حتى تستفيد من آرائهم وتصوراتهم في الموضوعات المختلفة».

ربى المرشد جيلاً حوزوياً شبابياً نهضوياً مسيساً طوّق كبار المراجع في الحوزة المحافظة

فضاء قم معارض تاريخياً لولاية الفقيه يرى أنها نظرية تاريخية، وإن قبل تطبيقها فبتفسير محدود للولاية

مصادر النظام في طهران تقرّ بأن «مراجع قم ليسوا بالضرورة على قلب واحد مع خامنئي. بل ربما هناك من كانت وجهات نظره لا تتفق ومواقف خامنئي في فترة سابقة. لكنهم مع ذلك خرجوا كلهم ليعاهدوا خامنئي، بالصوت والصورة، أنهم معه، وليقرّوا بحكمته ويقظته وإدارته الصبورة للأزمة الداخلية والتي لولاها لهلكنا جميعنا، وذلك طبعاً بعدما أصابهم نوع من اليقظة الوجدانية». وتشير المصادر نفسها إلى أن «من بقي من المعارضين (بعد وفاة آية الله حسين منتظري)، مثل آية الله يوسف صانعي وآية الله بيات زنجاني، ضاعوا عملياً في بحر الناس».
وتستدل هذه المصادر على ما تقول بحقيقة أنها «المرة الأولى التي يحصل فيها أن يجلس خامنئي في مكان واحد في الحوزة ويأتي الجميع اليه، وبكثرة، ليجتمعوا به. تماماً كما حصل مع الإمام الخميني في زيارته التاريخية لقم، علماً بأن في طهران اليوم مشكلة معارضة، خلافاً لما كانت عليه الحال أول أيام الثورة والانتصار على النظام الشاهنشاهي».
ومعروف أن مشاكل قم مع خامنئي كثيرة، لعل أحدثها أداء حكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد. هناك أيضاً ما تراه قم «سياسة ثقافية عامة منفتحة في طهران»، وهي سياسة شارك فيها جميع الرؤساء السابقين، من هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ونجاد. ويبقى طبعاً موضوع ولاية الفقيه، التي «لطالما كانت غير محبذة في قم، حيث يعتقد المراجع بأنها نظرية تاريخية يرفضون تطبيقها، وإن قبلوا، فبتفسير محدود للولاية». وتقول المصادر القريبة من أروقة صناعة القرار في طهران، إن «المرجعين ناصر مكارم شيرازي وحسين نوري همداني، لطالما كانا متحمسين لخامنئي ولولاية الفقيه، ووقفا معه على طول الخط، لكن الفضاء العام للحوزة كان مسكوناً بالنظرة المحافظة في تطبيق ولاية الفقيه».
مصادر النظام في طهران تتحدث عن أن خامنئي شدد كثيراً في قم على ضرورة دعم الحكومة، «ومن أول ترددات تصريحاته إعلان رفسنجاني الأحد ما حرفيته: رغم رأينا بكل الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة، إلا انني لا أجيز إضعاف حكومة محمود أحمدي نجاد. علماً بأن رفسنجاني لم يذهب إلى قم لتحريض علماء الحوزة خلافاً لما أفاد به الإعلام السعودي في خلال أزمة انتخابات الرئاسة الأخيرة».
وتختم المصادر بالقول إن زيارة خامنئي لقم ستنعكس «قوة على المفاوض الإيراني في الخارج، كما أنها ستوظف بتكريس شعبية خامنئي ومشروعيته الدينية وقيادته السياسية ومواجهته مع المجتمع الدولي المصمم على محاصرة إيران، والذي صدمته قدرة المرشد على العمل بصمت وهدوء ومن دون ضجيج على التحضير لهذه اللحظة التاريخية (زيارة قم) وردم الهوة بين قم وطهران».


نجاد: إيران ستصبح مركز مفكّري العالم

أكد الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، في كلمة ألقاها في الملتقى الوطني للحرب الناعمة عُقد في طهران أمس، أن الجمهورية الاسلامية يجب أن تصبح مركزاً لمفكري العالم.
وشدّد على ضرورة وضع نظرية شاملة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لمواجهة الأفكار الليبرالية والمادية. وقال «مجتمعنا مثل النهر الزُلال يجري باتجاه قمم المعرفة والكمال». وتابع «نسعى الى بناء إنسان من طراز المجتمع المهدوي»، موضحاً أن «إيران لا تعني قومية بل تجربة تاريخية تبيّن دور إيران».
وقال نجاد إن «الشعب الوحيد الذي بإمكانه أن يكون بديلاً للوضع الراهن هو الشعب الإيراني، لأن الشعوب تدرك أن الثقافة المنطلقة حالياً من إيران أقرب الى الحقيقة».
ورأى أن «قبول الإيرانيين الإسلام كان لأنهم أكثر حضارة وتطوراً من الذين عرضوا الإسلام عليهم»، وهم «قبلوا بالإسلام الأصيل النابع من الائمة الأطهار».
(مهر)