كما فعل بداية الصيف الماضي مع الحرب في أفغانستان، نشر موقع «ويكيليكس» نهاية الأسبوع الماضي نحو 400 ألف وثيقة سرية تتناول الحرب في العراق. القتل على الحواجز، الوجود الإيراني في العراق، تدريب الميليشيات الطائفية، تورط السياسيين في أعمال العنف المذهبية، التستر الأميركي على الانتهاك الفاضح لحقوق الإنسان. كلّها موجودة في الوثائق التي أظهرت حقيقة أرقام الضحايا المدنيين
واشنطن ــ محمد سعيد
إنّها من دون شك أكبر عملية تسريب لمعلومات سرية عن الحرب في التاريخ. 391831 وثيقة عسكرية واستخبارية تتناول مجريات الحرب في العراق بين عامي 2004 و2009، وجدت طريقها إلى الناس عبر موقع «ويكيليكس» الذي نشر في 25 تموز الماضي نحو تسعين ألف وثيقة تتعلق بالحرب في أفغانستان. وسلّم الموقع وثائقه مسبقاً الى عدد من وسائل الإعلام الدولية، وهي وكالة الصحافة الفرنسية (AFP) وصحف «نيويورك تايمز» و«الغارديان» و«دير شبيغل» ومحطة «الجزيرة» القطرية، التي كانت أول من كشف عن محتواها مساء الجمعة الماضي خلال ساعتها الإخبارية الرئيسية.
وتتهم الوثائق واشنطن بتجاهل التحقيق بالتعذيب الذي تعرض له مواطنون عراقيون على أيدي القوات العراقية المدعومة من قوات الاحتلال الأميركي ومقتل عدد كبير من المدنيين خلال الأعمال الحربية. كما كشفت عن مدى القلق الأميركي من التدخل الإيراني على الساحة العراقية. وأظهرت أنّ أكثر من 15 ألف مدني قتلوا في حوادث لم يبلّغ عنها من قبل، وأفادت السجلات عن وقوع 66081 حالة قتل خارج إطار القتال من بين 109 آلاف وفاة.
وتكشف بعض الملفات عن تعذيب المساجين عبر تقييدهم بالأصفاد وإغماض عيونهم وتعليقهم من المعصم أو الكاحل وجلدهم ولكمهم وركلهم وإخضاعهم للكرسي الكهربائي. وبحسب التقارير، فقد أدى ذلك إلى مقتل 6 معتقلين.
وتشير الوثائق إلى أنّ قوات الاحتلال الأميركي في العراق تلقّت في كانون الأول الماضي شريطاً مصوراً يظهر جنوداً عراقيين يعدمون سجيناً في تل عفر في شمال البلاد وذلك برميه بالرصاص في وسط الشارع. وقد حصلت قوات الاحتلال على اسم أحد الجنود على الأقل، غير أنّ التقرير أوضح أنّ الحلف يتبع سياسة رسمية بتجاهل الأخبار المماثلة، فيسجل أنّه ليس هناك حاجة للتحقيق ويحيله إلى الوحدة العراقية التي تورطت بأعمال العنف أصلاً. غير أنّ الوثائق توضح أنّ التقارير بشأن تورط القوات الأميركية والعراقية بأعمال مماثلة يخضع للتحقيق.
وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ عدد المدنيين القتلى أعلى بكثير مما اعترفت به حكومة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. وأوضحت الصحيفة أنّ شهر كانون الأول 2006 كان أسوأ شهر في الحرب، وسجل خلاله مقتل 3800 مدني بالإضافة إلى 1300 شرطي ومتمرد وجنود تابعين للاحتلال.
كذلك تكشف التقارير عن حالات قتل للمدنيين على أيدي قوات الاحتلال الأميركي لم يعلن عنها من قبل من خلال الغارات الجوية وعلى حواجز التفتيش. وأوضحت الصحيفة أنّ سوء التفاهم على الحواجز الأميركية كان قاتلاً في العديد من الحالات، وفي الكثير من الأوقات لم يفهم المواطنون العراقيون إشارات التوقف التي كان يقوم بها الجنود الأميركيون، كما أنّ أولئك الجنود لم يتمكنوا من التفاهم مع الناجين بسبب غياب المترجمين.
تكشف التقارير عن حالات قتل للمدنيين على أيدي القوات الأميركية لم يعلن عنها من قبل
وتظهر السجلات أنّ القوات الأميركية كانت تلجأ إلى استخدام القوة على نحو متسرع، ما أدى إلى مقتل نحو 700 مدني على الحواجز. وذكر الموقع أنّ «هناك تقارير عن قتل مدنيين عشوائياً عند نقاط تفتيش، وعن معتقلين عراقيين يعذبون على أيدي قوات الائتلاف وعن جنود أميركيين يفجرون مباني مدنية بالكامل بسبب وجود متمرد واحد مشتبه فيه على السطح».
كذلك تكشفت الوثائق عن حادثة وقعت في شهر تموز عام 2007 قتل فيها 26 شخصاً، نصفهم من المدنيين عندما أطلقت طائرة عمودية الرصاص باتجاه الضحايا.
وتكشف الوثائق المسربة أيضاً عن مدى القلق الأميركي من التدخل الإيراني في العراق. وتشير إلى حرب في الظلّ تدور بين القوات الأميركية والميليشيات العراقية الشيعية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني.
وتظهر السجلات تزويد إيران تلك الميليشيات بالصواريخ والقنابل والعبوات الناسفة وصواريخ أرض ـــــ جوّ محمولة، أسقط أحدها مروحية أميركية في شرق بغداد في تموز 2007. وتشير الملفات إلى أنّ المقاتلين العراقيين تلقوا تدريباً في إيران على القنص واستخدام المتفجرات وتعاون «فيلق القدس» الإيراني مع المتشددين العراقيين لإنشاء كتائب موت للتشجيع على قتل المسؤولين العراقيين. وقد استمر الصراع الأميركي ـــــ الإيراني في العراق، بحسب الموقع نفسه، مع وصول باراك أوباما إلى الرئاسة.
وتشير التقارير إلى أنّ جيش المهدي المدعوم من إيران، والتابع للزعيم العراقي مقتدى الصدر، كان يعتزم قصف المنطقة الخضراء في بغداد التي تضم المؤسسات الرسمية العراقية في الأول من كانون الأول 2006 باستخدام قذائف هاون وصواريخ حصل عليها من فيلق القدس. وقد التقى قائد جيش المهدي علي السيدي مسؤولين إيرانيين، تبيّن أنّهم مسؤولون في الحرس الثوري لتسلم 3 شحنات من الصواريخ، على ما أفاد الموقع.
وتظهر وثائق الحرب أنّ رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، نوري المالكي، متورط في إدارة فرق للقتل والتعذيب. وفي عام 2006، قبض على 17 شخصاً قالوا إنّهم قوات خاصة تتلقى الأوامر من المالكي. وترسم الوثائق صورة للمالكي بعيون الأميركيين، فيبدو شخصاً طائفياً منحازاً بالقوة إلى طائفته الشيعية على حساب مواطنيه السنة، كما تصوّر هذه الوثائق وجهاً خفياً للمالكي وهو يقود فرق الرعب. وكشفت الملفات السرية أنّ المالكي كان في السابق مكروهاً من الميليشيات القريبة من إيران، حتى إنّ أحد قادة فرق الموت في جيش المهدي قال في تشرين الثاني 2006 إنّه كلف بتدبير عملية اغتيال المالكي.
وذكرت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية أنّ دور فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في دعم وتسليح الميليشيات العراقية كان هدفه إشعار الأميركيين بأنّهم لا يسيطرون على الوضع في العراق. وقالت الصحيفة إنّ تقارير الاستخبارات العسكرية التي نشرها «ويكيليكس» تذكر بالتفصيل المخاوف الأميركية من قيام عملاء إيرانيين بتدريب وتسليح وتوجيه فرق إعدام في العراق. وأشارت الصحيفة إلى تقرير بتاريخ 31 تشرين الأول 2005 أوضح أنّ فرق الحرس الثوري الإيراني «توجه عمليات اغتيال برعاية إيرانية في البصرة».
ويكشف تقرير استخباري بريطاني أنّ ميليشيات شيعية كانت تتلقى الأوامر من طهران وأصبح عناصرها جزءاً من الشرطة العراقية. ولفت الى أنّ «خمس ميليشيات شيعية، أهمها فيلق بدر وحزب الفضيلة، كانت تتلقى الأوامر مباشرة من طهران، وهي التي أصبح بعض أفرادها جزءاً من الشرطة العراقية».
ولمّحت الوثائق الى اغتيالات مدروسة مموّلة من إيران تنفذ على ضوء معلومات عن السيرة الذاتية للهدف وتوضيح كيفية تصفيته، وهو الأمر الذي تطلّب، حسب الوثائق، دخول عملاء إيرانيين الى العراق حاول أحدهم اغتيال الدكتور عدنان الدليمي في عام 2005، حيث حاول إخفاء هويته الإيرانية والتنقل بجواز سفر مدوّن فيه أنّه أبكم خشية أن تكتشف لغته الفارسية.
كذلك قالت الوثائق إنّ رئيس الوزراء العراقي الأسبق أياد علاوي تعرض لتهديد من خلال سيارة مفخخة آتية من إيران كانت تريد تصفيته ودخلت العراق عبر الحدود الشمالية. وأشارت الوثائق الى أنّ الدور الإيراني بدا بارزاً في المواجهات التي اشتعلت بين الميليشيات الشيعية وأبرزها جيش المهدي وقوات الاحتلال الأميركي في عام 2008 فتضاعف عدد العملاء الإيرانيين داخل العراق ثلاث مرات في تلك الأيام.
المالكي ينفي ما جاء في الوثائق عن قيادته فرق موت نفذت عمليات تصفية طائفية
وتؤكد التقارير أنّ الولايات المتحدة أخفت الكثير من الحقائق المتعلقة بحربها على العراق وسعت إلى إبقائها طي الكتمان. وأشارت قناة «الجزيرة» الى أنّ الملفات السرية تؤكد أنّ قوات الاحتلال الأميركي في العراق كانت تحتفظ بتوثيق للقتلى والجرحى العراقيين، رغم إنكارها لكل ذلك. وأشارت الى وجود توثيق لنحو 285 ألف ضحية، بينهم 109 آلاف قتيل على الأقل، وهي أرقام تعني بوضوح أنّ نسبة القتلى أربعة أضعاف تلك التي سجلتها الحرب في أفغانستان وأنّ بقية الخسائر تصل الى 6 أضعاف في سياق المقارنة نفسها.
وأكدت الوثائق أنّ نحو 63 في المئة من القتلى هم من المدنيين، أي أنّهم يمثّلون ثلثي مجموع القتلى. وقالت القناة إنّ معدلات القتلى ارتفعت شهراً بعد شهر، وإنّ شهر كانون الأول 2006 كان الأكثر دموية، إذ قتل 5183 شخصاً، صنّف 4 آلاف منهم على أنّهم مدنيون. وقد سجن 180 ألف شخص لأسباب تتعلق بالحرب، غالبيتهم من المناطق السنية.
وتكشف الوثائق تفاصيل عن تورط مرتزقة شركة «بلاك ووتر» الأمنية الأميركية في إزهاق أرواح العراقيين، من دون أي مساءلة أو عقاب. وتحدثت عن حوادث عدة قتل فيها مدنيون بنيران الشركة، ومنها واقعة ساحة النسور في بغداد في أيلول 2007، التي قتل فيها 17 عراقياً وجرح 18 آخرون. كما تتحدث الوثائق عن 14 حادثاً آخر قتل فيها عشرة عراقيين وجُرح سبعة آخرون بنيران عناصر من «بلاك ووتر».
وأظهرت وثيقة أنّ مروحية تابعة للجيش البريطاني كانت، في آذار 2005، على وشك اعتقال الأردني أبو مصعب الزرقاوي، زعيم القاعدة في العراق الذي قتل عام 2006، لكنّها اضطرت للعودة أدراجها لنقص الوقود.
ولم تهدأ في اليومين الماضيين ردود الفعل على التسريبات. فدعت الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية الحكومة الأميركية إلى التحقيق في التقارير التي تشير إلى انتهاك حقوق الإنسان وجرائم الحرب.
ووصف الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية جيف موريل نشر الوثائق بالعمل المخزي ويعرض حياة الجنود الأميركيين للخطر. ودان قائد الجيوش الأميركية الأميرال مايك مولن على موقع تويتر نشر الوثائق، قائلاً إنّها تهدد حياة الكثيرين. وقال مولن «نشر ويكيليكس المزيد من الوثائق السرية المسروقة يهدد حياة كثيرين ويوفر معلومات قيّمة للخصوم». كما حذر الأمين العام للحلف الأطلسي أندرس فوغ راسموسن من التسريبات، قائلاً إنّها «مؤسفة للغاية ويمكن أن تكون لها عواقب سلبية جداً لجهة سلامة الأشخاص المعنيين».
من جهته، رأى نائب رئيس الوزراء البريطاني نك كليغ، في حديث مع تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية، أنّ ما ورد في الوثائق «خطير جداً». وأضاف «يمكننا التنديد بالطريقة التي حصلت بها هذه التسريبات، لكنّني أعتقد أنّ مضمونها خطير جداً».
عراقياً، قال وزير الداخلية جواد البولاني إنّ انتهاكات حقوق الإنسان غير مقبولة في العراق وسيجري التحقيق فيها. وأضاف إنّ «أي انتهاكات مدانة وفق القانون ووفق طبيعة النظام السياسي الجديد في البلد وطبيعة مؤسسات الدولة... وزارة الداخلية تتابع باستمرار أي حالة من حالات الخرق في هذا المجال. ومضى يقول «ليس هناك شخص فوق القانون مهما طالت فترة التحقيقات في بعض قضايا الانتهاكات. هنالك محاكم، وهنالك إجراءات قانونية ستطال من يتورط في هذه الانتهاكات».
وقال الناطق باسم وزارة حقوق الإنسان العراقية كامل الأمين إنّ «التقرير لم يمثّل أي مفاجأة لأنّنا أشرنا الى أمور كثيرة حدثت، بينها ما وقع في سجن أبو غريب (...) وكثير من الحالات التي قامت بها القوات الأميركية».
وأضاف «بالنسبة إلينا لم نفاجأ بمعلومات جديدة». وتابع إنّ عدد القتلى الذي كشفت الوثائق أنّه بلغ 109 آلاف منذ بداية الغزو في 2003 «قريب من الأرقام التي أعلنتها وزارة الصحة العراقية». وأكد أنّ «حقوق الإنسان لديها تثبيت لكثير من حالات القتل العمد، بينها حادثة بلاك ووتر ومقتل عبير ومجزرة اغتيال العائلات في منطقة حديثة».
أما العضو في التحالف الكردستاني، محمود عثمان، فقال إنّه «حتى لو كان ما يتضمنه التقرير صحيحاً فهو ليس مفاجئاً، فالجميع كان يسمع عن وجود خروق مثل وجود قوات قذرة وغيرها». وحول ترشيح المالكي لولاية ثانية، قال عثمان إنّ «ثقافة الانسحاب والاستقالة (لدى المسؤولين) لا تزال غير مترسخة في بلدنا (..) لو كانت تفاصيل التقرير صحيحة طبعاً ستؤثر، ولكن علينا التأكد أولاً من صحتها».
من جهتهم، عقد القيّمون على «ويكيليكس» مؤتمراً صحافياً في لندن يوم السبت، عرضوا فيه الوثائق. وقال مؤسس الموقع جوليان أسانج إنّ المعلومات تكشف الحقيقة. وقالت المسؤولة في الموقع كريستين هرافنسون إنّ 15 ألف وثيقة جديدة حول أفغانستان ستنشر قريباً، موضحة أنّ الموقع كان قد امتنع عن نشرها في السابق بسبب احتوائها على معلومات حساسة، وقد جرى تعديلها وإزالة معلومات قد تسبب أذية للأفراد.


«إساءة» لرئيس الحكومة

ردّ رئيس الورزاء، المنتهية ولايته، نوري المالكي من خلال مكتبه الإعلامي على المعلومات الواردة في تسريبات «ويكيليكس»، متهماً جهات إعلامية لم يسمّها باستغلال الوثائق للإساءة لشخص رئيس الوزراء. وقال بيان مكتب المالكي إنّ ما ورد في الوثائق «اتهامات يجب النظر إليها بحذر وإحالتها الى التحقيق، وإنّ الحكومة العراقية ستأخذ مثل هذه الوثائق بعين الاعتبار لترى من خلال التحقيق مدى مطابقتها للحقيقة بغية متابعة ذلك قانونياً، أو دخولها في إطار الخصومات السياسية التي لا مصلحة للعراق والعراقيين بها». ورأى البيان أن الضجة التي «تقودها بعض الجهات الإعلامية تحت غطاء الوثائق المذكورة ضد جهات وقيادات حكومية عراقية، ولا سيما نوري المالكي، مثيرة في أسلوبها وتوقيتها لأكثر من علامة استفهام».
وعما ورد في الوثائق عن فرق اغتيالات واعتقالات، ذكر البيان أنّ «لدولة رئيس الوزراء باعتباره قائداً عاماً للقوات المسلحة أجهزة كاملة تقوم بواجبها للاعتقال وإنزال العقوبة حينما يحكم القضاء والجهات المختصة بذلك، كما أنّها تعتقل من تصدر بحقه أوامر الاعتقال مهما كان ولكن لا على أساس طائفي أو حزبي أو غير ذلك».